الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية
الفصل الثاني
البنوك ودورها الجديد
إن وظيفة البنوك الأساسية وأولى هي الوساطة في الدفع. وأثناء ذلك تحول البنوك الرأسمال النقدي غير العامل إلى رأسمال عامل، أي إلى رأسمال يدر الأرباح، وتجمع العائدات النقدية بشتى أنواعها وتضعها تحت تصرف طبقة الرأسماليين.
ومع تطور الشؤون البنكية وتمركزها في مؤسسات قليلة العدد، تتحول البنوك من وسطاء متواضعين إلى احتكارات شديدة الحول والطول تتصرف بمعظم الرأسمال النقدي العائد لمجموع الرأسماليين وصغار أصحاب الأعمال وكذلك بالقسم الأكبر من وسائل الإنتاج ومصادر الخامات في بلاد معينة أو في جملة من البلدان. وتحول الوسطاء الكثيرين المتواضعين إلى حفنة من الاحتكاريين هو وجه أساسي من وجوه صيرورة الرأسمالية إلى امبريالية رأسمالية، ولذا ينبغي لنا أن نتناول في المقام الأول تمركز البنوك.
وفي سنة ١٩٠٧-١٩٠٨ كانت الودائع في جميع البنوك الألمانية المساهمة التي يزيد رأسمال كل منها من ١ مليون مارك تبلغ ٧ مليارات مارك؛ وفي سنة ١٩١٢-١٩١٣ بلغت الودائع ٩٫٨ مليار مارك. لقد بلغت الزيادة خلال خمس سنوات ٢٫٨ مليار، أي ٤٠٪؛ منها ٢٫٧٥ مليار مودعة في ٥٧ بنكا رأسمال كل منها ١٠ ملايين مارك. وكان توزيع الودائع بين البنوك الكبيرة والصغيرة على الصورة الآتية(١):
الودائع بالنسبة المئوية
|
في البنوك البرلينية التسعة الكبرى |
في البنوك الـ ٤٨ الأخرى التي يزيد رأسمال كل منها على ١٠ ملايين مارك |
في ١١٥ بنكا يبلغ رأسمال كل منها من ١ مليون و١٠ ملايين مارك |
في البنوك الصغيرة (رأسمال كل منها أقل من ١ مليون مارك) |
سنة ١٩٠٧-١٩٠٨ |
٤٧ |
٣٢٫٥ |
١٦٫٥ |
٤ |
سنة ١٩١٢-١٩١٣ |
٣٩ |
٣٦ |
١٢ |
٣ |
البنوك الصغيرة أزيحت من قبل البنوك الكبرى التي تركز تسعة منها فقط نحو نصف مجموع الودائع. ولكن أشياء كثيرة لم تؤخذ هنا بعين الاعتبار، منها مثلا تحول حملة من البنوك الصغيرة في الواقع إلى فروع للبنوك الكبرى وغير ذلك، الأمر الذي سنتحدث عنه فيما يأتي:
في أواخر سنة ١٩١٣ قدر شولتزه-غيفيرنيتز الودائع في البنوك البرلينية التسعة الكبرى بـ ٥٫١ مليار مارك من مجموع مبلغ من ١٠ مليارات. وقد كتب المؤلف نفسه آخذا بعين الاعتبار مجموع الرأسمال البنكي، لا الودائع وحدها: «في أواخر سنة ١٩٠٩، كانت البنوك البرلينية التسعة الكبرى، مع البنوك المرتبطة بها، تدير ١١٫٣ مليار مارك، أي نحو ٨٣٪ من مجموع ملاغ الرأسمال البنكي في ألمانيا. «فالبنك الألماني» («Deutche Bank») الذي يدير مع البنوك المرتبطة به مبلغا يقرب من ٣ مليارات مارك هو، إلى جانب الإدارة البروسية لسكك حديد الدولة، عبارة عن التراكم الأكبر والأقل مركزية للرأسمال في العالم القديم(٢).
لقد أشرنا إلى كلمة البنوك «المرتبطة»، لان ذلك يتعلق بخاصة من أهم الخواص المميزة للتمركز الرأسمالي الحديث. فالمشاريع الكبرى، ولاسيما البنوك، لا تبتلع الصغيرة بصورة مباشرة وحسب، بل «تربط»ـها بنفسها وتخضعها وتضمها إلى «مجموعتـ»ـها، إلى «كونسرنـ»ـها حسب التعبير الفني، وذلك عن طريق «الاشتراك» في رأسمالها، عن طريق شراء أو تبادل الأسهم، عن طريق نظام القروض وهلم جرا وغير ذلك. لقد كرس البروفيسور ليفمن «مؤلفا» ضخما بلغ خمسمائة صفحة لوصف «شركات الاشتراك والتمويل» الحديثة(٣)، ولكنه، للأسف، يضيف محاججات «نظرية» هزيلة إلى مواد لم يحسن تدبيرها في الأغلب. ومؤلف «البنكير» ريسر عن البنوك الألمانية الكبرى يبين أحسن من أي مؤلف آخر النتيجة التي تسفر عنها طريقة «الإشتراك» هذه من وجهة نظر التمركز. ولكن قبل أن ننتقل لبحث معطياته نذكر مثلا عمليا عن طريقة «الاشتراك».
«مجموعة» « البنك الألماني» هي من أكبر مجموعات البنوك الكبرى إن لم تكن أكبرها. ولكيما نتبين الخيوط الرئيسية التي تربط جميع بنوك هذه المجموعة ينبغي أن نميز «اشتراك» الدرجات الأولى والثانية والثالثة أو، وهو الأمر نفسه، التبعية (البنوك الأصغر «للبنك الألماني») من الدرجات الأولى والثانية والثالثة. ونحصل على الصورة التالية(٤):
|
تبعية الدرجة الأولى |
تبعية الدرجة الثانية |
تبعية الدرجة الثالثة |
«البنك الألماني» يشترك |
بصورة دائمة |
في ١٧ بنكا |
منها ٩ تشترك في ٣٤ بنكا آخر |
منها ٤ تشترك في ٨ بنوك أخرى |
بصورة مؤقتة |
في ٥ بنوك |
- |
- |
من وقت لآخر |
في ٨ بنوك |
منها ٥ تشترك في ١٤ بنكا آخر |
منها ٢ تشترك في ٢ بنكا آخر |
المجموع |
في ٣٠ بنكا |
منها ١٤ تشترك في ٤٨ بنكا آخر |
منها ٦ تشترك في ٩ بنكا آخر |
في العدد الـ٨ بنوك «من تبعية الدرجة الأولى» التي تخضع «للبنك الألماني» «من وقت لآخر» ثلاثة بنوك أجنبية: إحدها نمساوي («الاتحاد البنكي» في فيينا «Bankverein») وإثنان روسيان (البنك التجاري السيبيري والبنك الروسي للتجارة الخارجية). ومجموعة «البنك الألماني» تضم مباشرة وغير مباشرة، كليا وجزئيا ١٧ بنكا؛ ومجمل الرأسمال الذي تتصرف به مجموعة «البنك الألماني» – رأسمالها الخاص والودائع – يقدر بـ ٢-٣ مليارات مارك.
ومن الواضح أن بنكا يرأس مجموعة كهذه ويعقد اتفاقات مع نصف دزينة من البنوك الأخرى، لا تقل عنه في قوتها إلاّ قليلا، من أجل العمليات المالية الكبيرة جدا والمفيدة للغاية كمنح القروض للدولة، قد شب عن دور «الوسيط» وغدا اتحادا لحفنة من الاحتكاريين.
إن الأرقام التالية التي ننقلها باختصار عن ريسر تظهر بأية سرعة جرى تمركز البنوك في ألمانيا بالضبط في أواخر القرن ١٩ وبداية القرن ٢٠:
لدى ستة من البنوك البرلينية الكبرى
سنوات |
فروع في ألمانيا |
صناديق ودائع ومكاتب صرفية |
اشتراك دائم في البنوك المساهمة الألمانية |
مجموع المستندات |
١٨٩٥ | ١٦ | ١٤ | ١ | ٤٢ |
١٩٠٠ | ٢١ | ٤٠ | ٨ | ٨٠ |
١٩١١ | ١٠٤ | ٢٧٦ | ٦٣ | ٤٥٠ |
وهكذا نرى كيف تتسع بسرعة شبكة القنوات الكثيفة شاملة البلاد من أقصاها إلى أقصاها ومركزة جميع الرساميل والمداخيل النقدية وجاعلة من الألوف المؤلفة من المشاريع المبعثرة اقتصادا رأسماليا وطنيا موحدا ثم اقتصادا رأسماليا عالميا. أمّا «عدم التمركز» الذي تحدث عنه باسم الاقتصاد السياسي البرجوازي في أيامنا شولتزه-غيفيرنيتز في الفقرة المثبتة أعلاه فهو يتلخص في الواقع بأنه يخضع لمركز واحد عدد متزايد من الوحدات الاقتصادية التي كانت فيما مضى «مستقلة» نسبيا أو، بالأصح، ذات طابع محلي بحت. ومعنى ذلك في الواقع أن هنالك تمركزا وارتفاعا لشأن الاحتكارات العملاقة ولأهميتها وبأسها.
و«شبكة البنوك» هذه هي أكثر كثافة أيضا في البلدان الرأسمالية الأقدم. ففي إنجلترا مع ارلنده بلغت فروع جميع البنوك في سنة ١٩١٠- ٧١٥١. وكان لدى كل بنك من البنوك الأربعة الكبرى أكثر من ٤٠٠ فرع (من ٤٤٧ إلى ٦٨٩)، وكانت هناك ٤ بنوك أخرى لدى كل منها أكثر من ٣٠٠، و ١١ بنكا لدى كل منها أكثر من ١٠٠ فرع.
وفي فرنسا طورت البنوك الكبرى الثلاثة، «Crédit Lyonnais» («كريدي ليونيه»)، «Comptoir National» («كونتوار ناسيونال») و«Société Générale» («سوسييتي جينرال»)(٥) عملياتها وشبكة فروعها على الشكل التالي(٦):
أعوام | عدد الفروع والصناديق | الرأسمال |
في المقاطعات | في باريس | المجموع | الخاص | الودائع |
(بملايين الفرنكات) |
١٨٧٠ | ٤٨ | ١٧ | ٦٤ | ٢٠٠ | ٤٢٧ |
---|
١٨٩٠ | ١٩٢ | ٦٦ | ٢٥٨ | ٢٠٠ | ٤٢٧ |
١٩٠٩ | ١٠٣٣ | ١٩٦ | ١٢٢٩ | ٢٦٠ | ١٢٤٥ |
ولوصف «روابط» البنك الكبير الحديث يذكر ريسر أرقاما عن عدد الرسائل التي وجهتها وتلقتها «شركة الخصم» («Disconto-gesellschaft») وهي بنك من أكبر البنوك في ألمانيا وفي العالم كله (لقد بلغ رأسمالها في سنة ١٩١٤- ٣٠٠ مليون مارك):
عدد الرسائل
أعوام | الواردة | الصادرة |
١٨٥٢ | ٦١٣٠ | ٦٢٩٢ |
١٨٧٠ | ٨٥٨٠٠ | ٨٧٥١٣ |
١٩٠٠ | ٥٣٣١٠٢ | ٦٢٦٠٤٣ |
وفي البنك الباريسي الكبير «كريدي ليونيه» ارتفع عدد الحسابات الجارية من ٢٨٥٣٥ في سنة ١٨٧٥ إلى ٦٣٣٥٣٩ في سنة ١٩١٢ (٧).
نحسب أن هذه الأرقام البسيطة تظهر بصورة أوضح من الشروح المسهبة كيف تتبدل أهمية البنوك بشكل جذري مع تمركز الرأسمال وتزايد عملياتها. فمن الرأسماليين المبعثرين يتكون رأسمالي واحد مشترك. وإذ يقوم البنك بالحسابات الجارية لعدد من الرأسماليين يبدو وكأنه يقوم بعملية تكنيكية بحتة، بعملية مساعدة لا غير. ولكن عندما تبلغ هذه العملية مقاييس هائلة تكون النتيجة أن حفنة من الاحتكاريين تخضع لنفسها العمليات التجارية والصناعية في المجتمع الرأسمالي كله، إذ تتوفر لها – بفضل الصلات بين البنوك وعن طريق الحسابات الجارية والعمليات المالية الأخرى – الإمكانية لتعرف في أي بادئ الأمر على وجه الدقة حالة الأعمال لدى كل رأسمالي على حدة ثم للإشراف عليهم والتأثير عليهم عن طريق توسيع أو تضييق، تسهيل أو تصعيب التسليف، وأخيرا لتقرر بصورة تامة مصائرهم، لتحدد مداخليهم، لتحرمهم من الرأسمال أو لتمكنهم من تضخيم رساميلهم بسرعة وبمقادير هائلة، الخ.
ذكرنا الآن أن رأسمال «شركة الخصم» في برلين يبلغ ٣٠٠ مليون مارك. وهذا الإزدياد لرأسمال «شركة الخصم» كان حادثا من حوادث الصراع من أجل السيطرة بين بنكين من أكبر البنوك البرلينية هما «البنك الألماني» و«شركة الخصم». ففي سنة ١٨٧٠ كان الأول مبتدئا لم يزد رأسماله عن ١٥ مليونا وبلغ رأسمال الثاني ٣٠ مليونا. وفي سنة ١٩٠٨ بلغ رأسمال الأول ٢٠٠ مليون ورأسمال الثاني ١٧٠ مليونا. وفي سنة ١٩١٤ رفع الأول رأسماله إلى ٢٥٠ مليونا ورفع الثاني رأسماله عن طريق الإندماج ببنك كبير آخر من الدرجة الأولى «بنك شافهاوزن الاتحادي» إلى ٣٠٠ مليون. وغني عن البيان أن هذا الصراع من أجل السيطرة يجري بمحاداة «الاتفاقات» المتوافرة المتوطدة بين البنكين. وهاكم الاستنتاجات التي يوحيها مجرى هذا التطور للاختصاصيين في الشؤون البنكية الذين يعالجون الأمور الاقتصادية من وجهة نظر لا تتعدى بحال حدود الإصلاحية البرجوازية الأكثر اعتدالا والأكثر كياسة:
كتبت المجلة الألمانية «البنك» بشأن ازدياد رأسمال «شركة الخصم» إلى ٣٠٠ مليون قائلة: «ستنخرط البنوك الأخرى في الطريق نفسه، ومن الـ٣٠٠ شخص الذين يديرون ألمانيا اقتصاديا في الوقت الحاضر لن يبقى مع مر الزمن إلاّ ٥٠ أو ٢٥ أو أقل من ذلك. ولا يصح أن ننتظر أن تقتصر حركة التمركز الجديدة على ميدان البنوك وحده. فالروابط الوثيقة القائمة بين بعض البنوك تؤدي بطبيعة الحال إلى التقارب بين سينديكات الصناعيين التي تتمتع بحماية هذه البنوك… سنستيقظ في صباح ما فيدهشنا أن لا نرى أمام عيوننا إلاّ التروستات وحدها؛ وسنرى أنفسنا أمام ضرورة الاستعاضة عن الاحتكارات الخاصة باحتكار حكومة. ومع ذلك فليس هنالك في الجوهر ما نلون أنفسنا عليه، اللهم إلاّ تركنا الحبل على الغارب أمام مجريات الأمور، التي زادت الأسهم قليلا من سرعتها»(٨).
إنه مثل على عجز الصحافة البرجوازية التي لا يمتاز عنها العلم البرجوازي إلاّ بكونه أقل إخلاصا وبنوعيه إلى طمس جوهر الأمر وإلى تغطية الغابة ببعض شجرات. «استغراب» نتائج التمركز؛ «لوم» حكومة ألمانيا الرأسمالية أو «المجتمع» الرأسمالي («نحن»)؛ الخوف من أن «يعجل» إدخال الأسهم التمركز، كما يخاف أحد الألمان الاختصاصيين بـ«الكارتيلات»، تشيرشكي، من التروستات الأمريكية و«يفضل» الكارتيلات الألمانية لأنها لا تستطيع على ما يزعم، «أن تعجل لهذا الحد الخارق، كالتروستات، سير التقدم التكنيكي والاقتصادي»(٩)، – أفليس هذا هو العجز؟
بيد أن الأمر الواقع هو الأمر الواقع. ليس في ألمانيا تروستات، ففيها الكارتيلات «فقط»؛ ولكن ألمانيا يديرها ما لا يزيد عن ٣٠٠ من طواغيت الرأسمال. ويتضاءل عدد هؤلاء باستمرار. أمّا البنوك فهي، في جميع الحالات وفي جميع البلدان الرأسمالية ومهما تنوع التشريع البنكي الذي تخضع له، تقوي وتعجل لحد كبير سير تمركز الرأسمال وتشكل الاحتكارات.
لقد كتب ماركس منذ نصف قرن في مؤلفه «رأس المال» أن «البنوك تنشئ على النطاق الاجتماعي شكلا، وشكلا فقط، لا غير، للمحاسبة العامة والتوزيع العام لوسائل الإنتاج» (الترجمة الروسية، المجلد ٣، الجزء٢، ص ١٤٤). إن ما ذكرناه من معطيات عن تزايد الرأسمال البنكي وعن تزايد عدد مكاتب وفروع البنوك الكبرى وعدد حساباتها الجارية وغير ذلك يبين لنا بصورة جلية هذه «المحاسبة العامة» لطبقة الرأسماليين جميعها، وحتى غير الرأسماليين لأن البنوك تجمع، ولو لوقت ما، مختلف أنواع المداخيل النقدية العائدة لصغار أصحاب الأعمال والموظفين والمرتبة العليا الضئيلة من العمال. «التوزيع العام لوسائل الإنتاج» هو ما ينجم، من ناحية الأمر الشكلية، عن البنوك الحديثة التي تتصرف، في شخص ثلاثة أو ستة بنوك ضخمة في فرنسا وستة أو ثمانية في ألمانيا، بالمليارات العديدة. ولكن هذا التوزيع لوسائل الانتاج ليس/ من حيث مضمونه، «بعام» فقط، بل هو خاص، أي أنه يتم وفق مصالح الرأسمال الضخم، وفي الدرجة الأولى الرأسمال الأضخم، الإحتكاري، الذي يعمل في ظروف يقاسي فيها جمهور السكان شظف العيش ويتأخر فيها تطور الزراعة برمته تأخرا يدعو للقنوط عن تطور الصناعة، بينما يتقاضى فرع واحد منها، «الصناعة الثقيلة»، الجزية من سائر فروعها الأخرى.
وفي أمر صبغ الاقتصاد الرأسمالي بالصبغة الاجتماعية بدات تنافس البنوك صناديق التوفير ودوائر البريد، وهو «أبعد عن المركزية»، أي أنها تشمل في دائرة نفوذها عددا أكبر من المناطق، عددا أكبر من الزوايا النائية، وفئات أوسع من السكان. إن لجنة أمريكية قد جمعت الأرقام التالية التي تظهر بالمقارنة مجرى تزايد الودائع في البنوك وفي صناديق التوفير(١٠):
الودائع (بمليارات الماركات)
| إنجلترا | فرنسا | ألمانيا |
في البنوك | في صناديق التوفير | في البنوك | في صناديق التوفير | في البنوك | في شركات التسليف | في صناديق التوفير |
١٨٨٠ | ٨٫٤ | ١٫٦ | ؟ | ٠٫٩ | ٠٫٥ | ٠٫٤ | ٢٫٦ |
١٨٨٨ | ١٢٫٤ | ٢٫٠ | ١٫٥ | ٢٫١ | ١٫١ | ٠٫٤ | ٤٫٥ |
١٩٠٨ | ٢٣٫٢ | ٤٫٢ | ٣٫٧ | ٤٫٢ | ٨٫١ | ٢٫٢ | ١٣٫٩ |
إن صناديق التوفير التي تدفع للودائع ٤٪ أو ٤٫٢٥٪ مضطرة للبحث عن فرص لتوظيف رأسمالها بصورة «رابحة» وللاندفاع إلى عمليات شراء وبيع الكمبيلات والرهون وغير ذلك. «تمحى شيئا فشيئا» الحدود بين البنوك وصناديق التوفير. وتطلب الغرف التجارية في بوخوم وارفورت مثلا «منع» صناديق التوفير من مزاولة العمليات البنكية «الصرف» كخصم الكمبيلات، وتطلب تقييد النشاط «البنكي» لدوائر البريد(١١). ويبدو أن ملوك البنوك يخشون من أن يترصد لهم احتكار الدولة حيث لا ينظرونه. ولكن من البديهي أن هذا الخوف لا يتعدى، إن أمكن القول، حدود المنافسة بين مديري قسمين من أقسام مؤسسة بعينها. ذلك لأن طواغيت الرأسمال البنكي هم في الواقع الذين يتصرفون في نهاية الأمر بالمليارات من الرساميل المودعة في صناديق التوفير، هذا من جهة؛ ولأن احتكار الدولة في المجتمع الرأسمالي ليس، من الجهة الأخرى، إلاّ وسيلة لزيادة وتوطيد مداخيل أصحاب الملايين الموشكين على الإفلاس في هذا أو ذاك من الفروع الصناعية.
إن حلول الرأسمالية الجديدة التي يسيطر فيها الاحتكار محل القديمة التي تسيطر فيها المزاحمة الحرة يتجلى فيما يتجلى في انحطاط أهمية البورصة. فقد كتبت مجلة «البنك»: «إن البورصة قد كفت من أمد بعيد عن أن تكون الوسيط الذي لا يستغني عنه في التداول كما كانت فيما مضى، قبل أن يصبح بإمكان البنوك أن توزع بين زبائنها القسم الأكبر من الأوراق المالية الصادرة»(١٢).
««كل بنك - بورصة». إن هذه العبارة التي جرت مجرى الأمثال في الزمن الحديث تتضمن من الحقيقة قدرا يغدو أكبر بمقدار تضخم البنك وبمقدار ما يحوز التمركز نجاحات أكبر في ميدان النشاط البنكي»(١٣). «وإذا كانت البورصة فيما مضى، في السبعينات، مع ما كانت تتصف به من نزق الشباب» (تلميح «ناعم» إلى إفلاس البورصة في سنة ١٨٧٣ وإلى فضائح غروندير وغير ذلك) «قد فتحت عهد تصنيع ألمانيا، فقد إذا بإمكان البنوك والصناعة في الوقت الحاضر أن «تنهض بالأمر وحدها». فسيطرة بنوكنا الكبرى على البورصة… ليس إلاّ تعبيرا عن الدولة الصناعية الألمانية المنظمة أكمل تنظيم. وإذا كان نطاق تأثير القوانين الاقتصادية النافذة أوتوماتيكيا يتقلص بهذا الشكل ويتسع، لحد خارق، نطاق الضبط الواعي من خلال البنوك، فبنتيجة ذلك تزداد لدرجة كبرى مسؤولية العدد القليل من القواد على الإقتصاد الوطني» – هذا ما كتبه البروفيسور الألماني شولتزه –غيفيرنيتز(١٤) المدافع عن الإمبريالية الألمانية والذي يعتبر شخصا نافذ الكلمة عند الامبرياليين في جميع البلدان ويسعى إلى طمس «أمر تافه» هو أن هذا «الضبط الواعي» من خلال البنوك يتلخص في نهب الجمهور من قبل حفنة من الاحتكاريين «المنظمين أكمل تنظيم». فإن مهمة البروفيسور البرجوازي ليست في كشف أحابيل الاحتكاريين أصحاب البنوك ولا فضح احتيالاتهم، بل في تجميلها.
وكذلك ريسر، الاقتصادي و«البنكير» الأبعد صيتا، يكتفي بعبارات فارغة بصدد وقائع يستحيل انكارها: «تفقد البورصة أكثر فأكثر خاصيتها التي لا غنى عنها مطلقا للاقتصاد كله ولتداول الأوراق المالية، وهي كونها المقياس الأكثر دقة، وكذلك ضابطا للحركات الاقتصادية المتجهة نحوها، يعمل بصورة أوتوماتيكية تقريبا»(١٥).
وبعبارة أخرى: إن الرأسمالية القديمة، رأسمالية المزاحمة الحرة مع ضابطها الذي لا يمكنها الاستغناء عنه، البورصة، تغيب في طيات الماضي. تحل محلها رأسمالية جديدة تتسم بسمات انتقالية بينة، بسمات مزيج من المزاحمة الحرة والاحتكار. وهنا يخطر عفوا على البال السؤال التالي: ألامَ «تنتقل» هذه الرأسمالية الحديثة؟ ولكن العلماء البرجوازيين يخافون من طرح هذا السؤال.
«منذ ثلاثين سنة كان أصحاب الأعمال المتزاحمون بحرية يقومون بتسعة أعشار الجهد الاقتصادي الخارج عن نطاق عمل «العمال» الجسدي. وفي الوقت الحاضر يقوم الموظفون بتسعة أعشار هذا الجهد الفكري في الاقتصاد. والنشاط البنكي يتقدم هذا التطور»(١٦) إن هذا الإعتراف من شولتزه-غيفيرنيتز يسوقنا مرة أخرى إلى السؤال عمَّا تنتقل إليه الرأسمالية الحديثة، الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية.
بين العدد الضئيل من البنوك التي تبقى في رأس الاقتصاد الرأسمالي بأكمله بحكم سير التمركز يظهر بصورة طبيعية ويشتد أكثر فأكثر الميل إلى الاتفاق الاحتكاري، إلى تروست بين البنوك. ليس في أمريكا تسعة بنوك، بل بنكان من أكبر البنوك عائدان لصاحبي المليارات روكفلر ومورغان، يسيطرون على رأسمال مقداره ١١ مليار مارك(١٧). لقد أشرنا فيما تقدم إلى ابتلاع «شركة الخصم» «لبنك شافهاوزن الإتحادي» في ألمانيا. وقد أعطت جريدة «فرانكفورت زايتونغ» المعبرة عن مصالح البورصة لهذا الأمر التقدير التالي:
«مع اشتداد تمركز البنوك تتقلص دائرة المؤسسات التي يمكن بوجه عام أن تطلب منها القروض، وبحكم ذلك تشتد تبعية الصناعة الكبيرة لعدد ضئيل من المجموعات البنوك. وفي ظل الصلة الوثقى القائمة بين الصناعة وعالم رجال المال تقيد حرية حركة الشركات الصناعية المحتاجة لرأسمال البنوك. ولهذا تنظر الصناعة الكبيرة إلى اشتداد تكتل البنوك في التروستات (انضمام أو تحول إلى تروستات) بمشاعر مختلطة؛ الواقع أنه قد لوحظت مرارا بوادر إتفاقات معينة بين هذه أو تلك من اتحادات البنوك الكبرى، اتفاقات هدفها تقييد المزاحمة»(١٨).
وها نحن نرى مرة أخرى أن الكلمة الأخيرة في تطور النشاط البنكي هي الاحتكار.
أمّا بخصوص الصلة الوثقى القائمة بين البنوك والصناعة، ففي هذا الميدان بالضبط يبدو دور البنوك الجديدة ربما بأجلى شكل. فإذا كان البنك يقوم بخصم كمبيلات هذا الصناعي أو ذاك ويفتح له حسابا جاريا الخ.، فإن هذه العمليات مأخوذة على حدة لا تحد من استقلال هذا الصناعي قيد أنملة ولا يتعدى البنك دوره كوسيط متواضع. ولكن عندما تكثر هذه العمليات وتتوطد، وعندما «يجمع» البنك بين يديه مقادير هائلة من الرساميل وعندما يكون القيام بعمليات الحساب الجاري لهذا المشروع يمكن البنك من أن يعرف – وهذا ما يحدث في المعتاد – بصورة أدق وأكمل حالة الزبون الاقتصادية، تكون النتيجة خضوع الرأسمالي الصناعي للبنك خضوعا أكثر فأكثر.
وإلى جانب ذلك يتطور، إن أمكن القول، الاتحاد الشخصي بين البنوك والمشاريع الصناعية والتجارية الكبرى واندماج هذه وتلك عن طريق تملك الأسهم، عن طريق دخول مدراء البنوك في عضوية مجالس مراقبة (أو مجالس إدارة) المشاريع الصناعية والتجارية، وبالعكس. لقد جمع الاقتصادي الألماني ييدلس معلومات مفصلة عن هذا الشكل من تمركز المشاريع. فثمة ستة بنوك برلينين كبرى كانت ممثلة بواسطة مدرائها في ٣٤٤ شركة صناعية وبواسطة أعضاء مجالس إدارتها في ٤٠٧ شركات أخرى، أي في ٧٥١ شركة بالمجموع. وكان لها في ٢٨٩ من هذه الشركات إمّا عضوان في مجالس المراقبة أو منصب الرئاسة في هذه المجالس. وبين هذه الشركات الصناعية التجارية نصادف مختلف فروع الصناعة والتأمين وطرق المواصلات والمطاعم والمسارح وصناعة المنتوجات الفنية وغير ذلك. ومن الجهة الأخرى وجد (في سنة ١٩١٠) في مجلس مراقبة هذه البنوك الستة نفسها ٥١ من كبار الصناعيين منهم مدير شركة كروب، ومدير شركة البواخر الهائلة «Hapag» (Hamburg-Amerika)(١٩) وهلم جرا والخ.. ومن سنة ١٨٩٥ إلى سنة ١٩١٠ اشترك كل من هذه البنوك الستة في اصدار الأسهم والسندات لمئات عديدة من الشركات الصناعية، أي من ٢٨١ إلى ٤١٩ شركة(٢٠).
«الإتحاد الشخصي» بين البنوك والصناعة يكتمل بـ«الاتحاد الشخصي» بين هذه وتلك والحكومة. فقد كتب ييدلس: «يقدمون المقاعد في مجالس المراقبة عن طيبة خاطر للشخصيات ذات الأسماء الطنانة وكذلك للموظفين سابقا في جهاز الدولة الذين يمكنهم أن يسهلوا (!!) لدرجة كبيرة العلاقات مع السلطات»… «ففي مجلس مراقبة بنك كبير نجد في المعتاد أحد النواب أو أحد أعضاء مجلس بلدية برلين».
إن رسم وتكوين الاحتكارات الكبيرة الرساميل، إذا أمكن القول، يجريان اذن على قدم وساق وبكل الطرق «الطبيعية» و«الخارقة». ويتم بصروة منتظمة نوع من تقسيم للعمل بين عدة مئات من ملوك المال في المجتمع الرأسمالي الحديث:
«إلى جانب هذا الاتساع لميدان نشاط البعض من كبار الصناعيين» (الذين يدخلون في مجالس إدارة البنوك وغير ذلك) «ووضع منطقة صناعية معينة واحدة فقط تحت إشراف مدراء فروع البنوك في المناطق يحدث شيئا فشيئا التخصص بين مدراء البنوك الكبرى. وهذا التخصص أمر غير ممكن إلاّ في حالة ضخامة المؤسسة البنكية على العموم وسعة نطاق علاقاتها بالصناعة على الخصوص. ويجري تقسيم العمل هذا في اتجاهين: من جهة تعهد جميع العلاقات بالصناعة لأحد المدراء لتكون ميدانه الخاص، ومن الجهة الأخرى يأخذ كل مدير على نفسه مراقبة هذا المشروع أو ذاك أم مجموعة من المشاريع المتشابهة من حيث المهنة أو المصلحة»… (لقد بلغت الرأسمالية درجة المراقبة المنظمة على مختلف المشاريع)… «اختصاص هذا المدير هو الصناعة الألمانية وأحيانا صناعة ألمانيا الغربية وحدها» (ألمانيا الغربية هي من وجهة نظر الصناعة القسم الأكثر تطورا في ألمانيا)، «ويتخصص الآخرون بالعلاقات مع الدول الصناعية الأجنبية وبجمع المعلومات عن شخصيات الصناعيين والخ.، وبقضايا البورصة وهلم جرا. وفضلا عن ذلك غالبا ما يكلف كل مدير من مدراء البنك بشؤون منطقة معينة أو فرع صناعي معين؛ فيعمل أحدهم بصورة رئيسية في مجالس مراقبة شركات الكهرباء وآخر في المعامل الكيميائية، أو في معامل الجعة أو معامل السكر، ويعمل ثالث في المشاريع القليلة المنعزلة وإلى جانب ذلك في مجالس مراقبة شركات التأمين… وباختصار، لا ريب في أنه بمقدار اتساع العمليات وتنوعها يتسع في البنوك الكبرى تقسيم العمل بين المدراء بقصد (وعلى أن تكون النتيجة) رفعهم قليلا ما، إن أمكن القول، إلى ما فوق مستوى الشؤون البنكية الصرف، بقصد جعلهم أهلا لتفهم مجريات الأمور وأكثر تضلعا في المسائل الصناعية العامة وفي المسائل الخاصة بكل فرع من فروع الصناعة ولأعدادهم للعمل في منطقة نفوذ البنك الصناعية. نظام البنوك هذا يكتمل بميلها إلى أن ينتخب لمجلس مراقبتها أناس ذوو خبرة واسعة في الشؤون الصناعية وصناعيون وموظفون سابقون ولاسيما أولئك الذين خدموا في إدارات السكك الحديدية والمناجم» وهلم جرا(٢١).
ونجد في الميدان البنكي في فرنسا مؤسسات من ذات النوع مع اختلاف جد يسير. «فالكريدي ليونيه»، مثلا، أحد البنوك الفرنسية الثلاثة الكبرى، قد نظم لديه «إدارة خاصة لجمع المعلومات المالية» (service des études financières) ويعمل في هذه الإدارة بصورة دائمة أكثر من خمسين شخصا من المهندسين والخبراء في الاحصاء والاقتصاديين والحقوقيين الخ.. وتكلف هذه الإدارة من ٦٠٠ إلى ٧٠٠ ألف فرنك في السنة. وتنقسم هذه الإدارة بدورها إلى ثمانية أقسام: قسم مختص بجمع المعلومات عن المشاريع الصناعية ويدرس القسم الآخر الاحصاءات العامة ويدرس القسم الثالث شركات السكك الحديدية والبواخر والرابع الأرصدة والخامس التقارير المالية والخ(٢٢).
وتكون النتيجة، من جهة، اندماج متزايد، أو كما أحسن التعبير بوخارين، اقتران الرأسمال البنكي والصناعي؛ ومن الجهة الأخرى، صيرورة البنوك إلى مؤسسات ذات «طابع شامل» حقا. ونرى من الضروري أن نورد بالنص عبارات ييدلس حول هذه المسألة، وهو الكاتب الذي درس المسألة أحسن من الآخرين:
«بنتيجة دراسة العلاقات الصناعية بمجموعها نقرر أن المؤسسات المالية التي تعمل للصناعة هي ذات طابع شامل. فعلى نقيض الأشكال الأخرى للبنوك، على نقيض المطالب التي تصاغ أحيانا في المطبوعات والقائلة بأنه ينبغي على البنوك أن تتخصص في ميدان معين أو فرع صناعي معين لكيلا تفقد الأرض تحت قدميها، – تسعى البنوك الكبرى وراء جعل علاقاتها مع المشاريع الصناعية متنوعة إلى أقصى حد ممكن من حيث الأماكن والإنتاج، تسعى وراء إزالة عدم التناسب في توزيع الرساميل بين مختلف المناطق أو الفروع الصناعية، عدم التناسب الذي يجد تفسيره في تاريخ مختلف المشاريع». «هناك اتجاه يتلخص في جعل هذه العلاقات بالصناعة ظاهرة عامة؛ واتجاه آخر يتلخص في جعل هذه العلاقات وطيدة وفعالة؛ وقد طبق الاتجاهان في البنوك الستة الكبرى، إن لم يكن بصورة كاملة، ففي نطاق واسع وبدرجة واحدة».
غالبا ما تشكو الأوساط الصناعية والتجارية من «إرهاب» البنوك. وهل من مجال لاستغراب هذه الشكاوى إذا كانت البنوك الكبرى «تتحكم» كما يظهر المثال التالي: في ١٩ نوفمبر سنة ١٩٠١ وجه أحد البنوك البرلينية المسمات «د» (أسماء البنوك الأربعة الكبرى تبدأ بحرف د) إلى مجلس إدارة سينديكا الأسمنت في وسط وشمال غرب ألمانيا الرسالة التالية: «يتضح من النبأ الذي نشر تموه في الثامن عشر من الشهر الجاري في الجريدة الفلانية أن علينا أن نأخذ بالحسبان أنه يحتمل أنكم ستتخذون في الجمعية العمومية التي ستعقدها سينديكاتكم في الثلاثين من الشهر الجاري قرارات يمكنها أن تحدث في مشروعكم تغييرات لا يسعنا قبولها. ولذلك فنحن، مع مزيد أسفنا، مضطرون إلى قطع الاعتماد الذي فتحناه لكم… ولكن إذا لم تتخذ في هذه الجمعية العمومية قرارات لا يسعنا قبولهل وإذا قدمت لنا الضمانات المناسبة حول هذا الشأن فيما يخص المستقبل فنحن نعرب عن استعدادنا للشروع في مداولات بقصد فتح اعتماد جديد لكم»(٢٣).
إنها في جوهر الأمر عين شكاوى الرأسمال الصغير من ظلم الرأسمال الكبير، ولكن في هذه الحالة وقع في فئة «الصغار» سينديكا برمته! إن الصراع القديم بين الرأسمال الصغير والرأسمال الكبير يستأنف في درجة من التطور جديدة، أعلى جدا. ومن المفهوم أن مؤسسات البنوك الكبرى التي تتصرف بالمليارات يمكنها كذلك أن تدفع إلى الأمام تقدم التكنيك بوسائل لا يمكن أن تقارن بوجه مع الوسائل السابقة. فالبنوك تؤسس، مثلا، جمعيات خاصة للأبحاث التكنيكية لا تنتفع بنتائج دراساتها إلاّ المشاريع الصناعية «الصديقة» طبعا. ومن هذه الجمعيات «جمعية دراسة مسألة السكك الحديدية الكهربائية» و«المكتب المركزي للأبحاث العلمية والتكنيكية» وهلم جرا.
ولا ريب في أن المشرفين على البنوك الكبرى أنفسهم يرون أن ظروفا جديدة للاقتصاد الوطني آخذة في التكوين؛ ولكنهم عاجزون إزاءها.
يقول ييدلس: «إن من تتبع أثناء السنوات الأخيرة تبدل الأشخاص في مناصب المدراء وأعضاء مجالس المراقبة في البنوك الكبرى لا يمكنه ألاّ يرى انتقال السلطة بالتدريج إلى أيدي أشخاص يعتبرون التدخل النشيط في التطور الصناعي العام مهمة الزامية من مهام البنوك الكبرى تغدو ملحة أكثر فأكثر، علما بأن ذلك هو مبعث التباعد بين هؤلاء الأشخاص ومدراء البنوك القدماء على الصعيد العملي وغالبا على الصعيد الشخصي أيضا. والقضية هي، في الجوهر، قضية ما إذا كانت البنوك، بوصفها مؤسسات تسليف، لا تتضرر من تدخل البنوك هذا في مجرى الإنتاج الصناعي، وما إذا كانت لا تضحي بالمبادئ الوطيدةوالأرباح الأكيدة من أجل نشاط لا يجمعه جامع بدورها كوسيط في التسليف ويدفع البنوك إلى صعيد تكون فيه أكثر من السابق خاضعة لتقلبات الأحوال الصناعية العمياء. هذا ما يقوله الكثيرون من مدراء البنوك القدماء؛ أمّا أكثر المدراء الشباب فيعتبرون التدخل النشيط في المسائل الصناعية لا يختلف عن الضرورة التي نشأت عنها البنوك الكبرى والمشاريع الصناعية البنكية الحديثة في وقت واحد مع الصناعة الضخمة الحديثة. ويتحقق الجانبان حول نقطة واحدة هي عدم وجود أية مبادئ وطيدة أو هدف معين لنشاط البنوك الكبرى الجديد»(٢٤).
انقضى عهد الرأسمالية القديمة. والجديدة هي انتقال إلى جديد ما. أمّا البحث عن «مبادئ وطيدة وهدف معين» «للتوفيق» بين الاحتكارات والمزاحمة الحرة فهو باطل طبعا. فاعترافات أصحاب الخبرة لا تشبه بوجه المديح الذي يكيله لفضائل الرأسمالية «المنظمة» المدافعون الرسميون عنها من أمثال شولتزه-غيفيرنيتز وليفمن ومن لف لفهم من «النظريين».
في أي زمن بالضبط توطد بصورة نهائية «النشاط الجديد» للبنوك الكبرى؟ نجد لدى ييدلس الجواب الدقيق لحد ما على هذا السؤال الهام:
«العلاقات بين المشاريع الصناعية بمضمونها الجديد وأشكالها الجديدة وهيئاتها الجديدة أي البنوك الكبرى المنظمة في وقت معاً على الطريقة المركزية واللامركزية، لم تتكون قطعا كظاهرة مميزة للاقتصاد الوطني قبل سنوات العقد العاشر من القرن الماضي، وبالإمكان بمعنى معين تأخير نقطة البدء هذه إلى سنة ١٨٩٧ لما حدث فيها من «اندماجات» كبرى بين المشاريع ادخلت لأول مرة الشكل الجديد للتنظيم اللامركزي لأسباب تتعلق بالسياسة الصناعية التي تمارسها البنوك. ولعل الانضباط أن ندفع نقطة البدء هذه إلى تاريخ أقرب، لأن أزمة سنة ١٩٠٠ قد زادت بصورة هائلة من سير التمركز ووطدت هذا السير سواء في الصناعة أو في البنوك محولة لأول مرة الصلات بالصناعة إلى احتكار حقيقي للبنوك الكبرى وجاعلة هذه الصلات أوثق وأقوى جدا»(٢٥).
إذن، إن القرن العشرين هو نقطة التحول من الرأسمالية القديمة إلى الحديثة، من سيطرة الرأسمال بوجه عام إلى سيطرة الرأسمال المالي.
(١)
الفريد لانسبورغ. «نشاط البنوك الألمانية في خمس سنوات»، مجاة «البنك» ر 8 سنة ١٩١٣ ص ٧٢٨. الناشر
(٢)
Schltze-Gaevernitz. «Die deutsche Kreditbenk» في «Grudrib der Sozialökonomik». Tüb. , 1905 ص ص ١٣٧، ١٢ (شولتزه غيفيرنيتز. «بنك التسليف الألماني» في «أسس الاقتصاد الاجتماعي». تيوبينغين. الناشر).
(٣)
R. Liefmann/ «Beteiligungs-und Finanzierungsgesellschaften. Eine Studie über den modernen Kapitalismus und das Effektenwesen». I. Aufl., 1909. - ، ص ٢١٢.
(٤)
Alfred Lansburgh. «Beteiligungssystem im deutschen Bankwesen», «die Bank», 1910, 1 ، ص ٥٠٠ (الفرد لانسبورغ. «طريقة الاشتراك في أعمال البنوك الألمانية»، مجلة «البنك». الناشر).
(٥)
«شركة التسليف الليونية»، «دائرة الخصم الوطنية» و«الشركة العامة». الناشر.
(٦)
Eugen Kaufmann. «Das französische Bankwesen», Tüb. 1911 ص ص ٣٥٦ و ٣٦٢ (أوجين كوفمان. «حالة البنوك في فرنسا». تيوبينغين. الناشر).
(٧)
Jean Lescure. «L’épargne en France». P. 1914 ص ٥٢ (جان ليسكور. «الإدخار في فرنسا». باريس. الناشر).
(٨)
A. Lansburgh. «Die Bank mit den 300 Million», «Die Bank» 1914, 1 ص ٤٢٦ (أ. لانسبورغ. «بنك ذو ٣٠٠ مليون»، مجلة «البنك» ١٩١٤. الناشر).
(٩)
S . Tschierschky ، المؤلف المذكور، ص ١٢٨.
(١٠)
أرقام لجنة النقد الأمريكية National Monetary Commision (مأخوذة عن مجلة «البنك». الناشر)، سنة ١٩١٠، المجلد الثاني، ص ١٢٠٠.
(١١)
أرقام لجنة النقد الأمريكية National Monetary Commision (مأخوذة عن مجلة «البنك». الناشر)، سنة ١٩١٣، ص ص ١٠٢٢، ٨١١ سنة ١٩١٤، ص ٧١٣.
(١٢)
«Die Bank» , 1914,1 ص ٣١٦.
(١٣)
Dr. Oscar Stillich. «Geld-und Bankwesen», Berlin 1907 ، ص ١٦٩. (دكتور أوسكاد شتيليخ. «النقود والنشاط البنكي». برلين. الناشر).
(١٤)
Schltze-Gaevernitz. «Die deutsche Kreditbenk» في «Grudrib der Sozialökonomik». Tüb. , 1905 ص ١٠١.
(١٥)
ريسر، المؤلف المذكور، ص ٦٢٩، الطبعة الرابعة.
(١٦)
Schltze-Gaevernitz. «Die deutsche Kreditbenk» في «Grudrib der Sozialökonomik». Tüb. , 1905 ص ١٥١.
(١٧)
«Die Bank», 1912, 1 ص ٤٣٥.
(١٨)
نقلا عن شولتزه-غيفيرنيتز في «Grdr. d. S-Oek»، ص ١٥٥.
(١٩)
«هاباغ» (هامبورغ-أميركا). الناشر
(٢٠)
ييدلس وريسر، المؤلفان المذكوران.
(٢١)
ييدلس، المؤلف المذكور، ص ص ١٥٦-١٥٧.
(٢٢)
مقال لـ Eug. Kaufmann عن البنوك الفرنسية في مجلة «Die Bank» 1909، 2
(٢٣)
Dr. Oscar Stillich, «Geld-und Bankwesen» ص ١٤٧.
(٢٤)
ييدلس، المؤلف المذكور، ص ص ١٨٤-١٨٣.
(٢٥)
ييدلس، المؤلف المذكور، ص ١٨١.
|