الأحزاب السياسية فى روسيا
تجبر الانتخابات إلى دوما الدولة كافة الأحزاب على رفع حدة تحريضها وعلى تجميع قواها لإنجاح أكبر عدد ممكن من مرشحيها.
لهذه الغاية يجرى عندنا، كما فى كافة البلدان الأخرى، نشر إشهار انتخابى بالغ الوقاحة. تقوم كافة الأحزاب البرجوازية، أى تلك التى تحرس الامتيازات الاقتصادية للرأسماليين، بالإشهار لأحزابها بنفس الكيفية تماما التى يقوم بها الرأسماليون بالإشهار لبضائعهم. انظروا إلى الإعلانات التجارية المنشورة بالجرائد وسترون أن الرأسماليين يخترعون لبضائعهم أكثر الأسماء «إثارة» وأكثرها ضجيجا ومطابقة للموضة، وأنهم يمدحونها دون أى حرج ودون امتناع عن أى كذب ولا أى خديعة.
وقد اعتاد الجمهور، فى المدن الكبرى ومراكز التجارة بالأقل، على الإشهار التجارى منذ أمد بعيد، ويدرك قيمته. لكن الإشهار السياسى يخدع للأسف عددا من الناس أكبر بما لا يقاس، وثمة صعوبة أكبر فى إسقاط القناع عنه، إذ أن الكذب يرسخ هنا على نحو أشد صلابة. ويجرى أحيانا اختيار أسماء الأحزاب عندنا – كما فى أوربا – لأجل استعمالها للإشهار بشكل جلى، وعادة ما تـُصاغ «برامج» الأحزاب لغاية وحيدة هى خداع الجمهور. وفى الغالب بقدر وجود حرية سياسية فى بلد رأسمالى، بقدر وجود ديمقراطية، أى سلطة شعبية وممثلين للشعب، بقدر ما يكون إشهار الأحزاب وقحا.
لكن والحالة هذه، كيف يمكن للمرء أن يوجه نفسه فى صراع الأحزاب؟ ألا يدل هذا الصراع بأكاذيبه وإشهاره على أن المؤسسات التمثيلية والبرلمانات وجمعيات ممثلى الشعب هى بوجه عام غير مفيدة، لا بل ضارة كما يدعى غلاة الرجعية أعداء البرلمانية؟ لا أبدا. ففى غياب مؤسسات تمثيلية يكون ثمة قدر أكبر بكثير من الأكاذيب والنفاق السياسى وكل أشكال الخداع وتكون الموارد المتاحة للشعب لفضح الكذب واكتشاف الحقيقة أقل بكثير.
يجب على المرء، كى يكون على بصيرة فى صراع الأحزاب، ألا يثق بها وفق أقوالها بل عليه أن يدرس تاريخها الفعلى، أى أن ينظر إلى طريقتها فى حل مختلف المسائل السياسية وإلى سلوكها فى مختلف القضايا المتعلقة بالمصالح الحيوية لمختلف الطبقات الاجتماعية: مالكون عقاريون، رأسماليون، فلاحون، عمال، الخ.
بقدر توفر بلد ما على الحرية السياسية واستقرار مؤسساته التمثيلية وديمقراطيتها، بقدر ما يسهل على الجماهير أن توجه نفسها فى صراع الأحزاب وأن تبدأ فى تعلم السياسة أى تعلم فضح الكذب واكتشاف الحقيقة.
يبرز بجلاء تام انقسام كل مجتمع إلى أحزاب سياسية بوجه خاص فى مرحلة أزمات عميقة تهز البلد. آنذاك تكون الحكومات مجبرة على البحث عن سند فى مختلف طبقات المجتمع. ويستبعد الصراع المحتدم الجمل وكل ما هو حقير وسطحى وتشد الأحزاب كل قواها وتنادى على الجماهير الشعبية، التى تتبع، مقتادة بغريزتها السليمة ومستنيرة بخبرتها فى النضال المكشوف، الأحزاب الممثلة لمصالح هذه الطبقة أو تلك.
دوما تحدد فترات الأزمة هذه لسنوات عديدة، وحتى لعقود عديدة، الخريطة السياسية للقوى الاجتماعية لبلد ما. ففى ألمانيا مثلا مثلت حروب ١٨٦٦-١٨٧٠ [١] تلك الأزمة وفى روسيا مثلتها أحداث ١٩٠٥. ويستحيل فهم طبيعة أحزابنا السياسية كما يستحيل كشف أى طبقات يمثل هذا الحزب أو ذاك فى روسيا دون العودة إلى احداث تلك السنة.
سنبدأ لمحتنا عن الأحزاب السياسية فى روسيا بأحزاب أقصى اليمين.
ففى أقصى اليمين نجد «اتحاد الشعب الروسي».
إن برنامج هذا الحزب معروض كما يلى فى جريدته روسكويى زناميا التى يصدرها. دوبروفين:
«إن اتحاد الشعب الروسى، الذى شرفه القيصر يوم ٣ يونيو ١٩٠٧ بنداء موجه من أعلى العرش، طالبا منه أن يكون سنده الوفى، وأن يعطى للجميع وفى كل المناسبات مثال الشرعية والنظام، يعلن أن إرادة القيصر لا يمكن إنجازها الا بالشروط التالية: ١) التجلى الكامل لقوة الاتوقراطية القيصرية المرتبطة عضويا ودائما بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية المنظمة طبقا للشرائع. ٢) ألا تقتصر سيادة القومية الروسية على الأقاليم الداخلية بل أيضا الطرفية. ٣) عندما تصبح دوما الدولة، المكونة حصرا من الروس، المساعد الرئيسى للاوتوقراطى فى عمله السياسى. ٤) تطبيق صارم للمبادئ الأساسية لاتحاد الشعب الروسى المتعلقة باليهود. ٥) طرد الموظفين أعداء السلطة القيصرية الاتوقراطية.»
أعدنا هنا حرفيا هذا التصريح الرسمى لليمين قصد اطلاع القارئ على النص الأصلى أولا، ثم لأن البواعث الأساسية المعروضة هنا صالحة بالنسبة لكافة أحزاب الأغلبية بالدوما الثالثة، أى «القوميين» والاكتوبريين على حد سواء. وهذا ما سنراه لاحقا.
إن برنامج اتحاد الشعب الروسى يستعيد فى الجوهر شعار عصر القنانة القديم: الأرثوذكسية، الاتوقراطية، القومية. أما عن الاعتراف بالمبادئ «الدستورية» فى النظام السياسى الروسى، وهى المسألة التى عادة ما يتميز بها اتحاد الشعب الروسى عن باقى الأحزاب التى تيله، فتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتحاد ليس بأى وجه ضد المؤسسات التمثيلية بصفة عامة. ويبرز البرنامج الذى أوردناه أن اتحاد الشعب الروسى من أنصار دوما دولة تقوم بدور«مساعد».
خصوصية الدستور الروسى – إن صحت تسميته دستورا – حددتها جريدة دوبروفين على نحو صائب، أى طبقا للوضع الفعلى. ويتمسك القوميون والاكتوبريون، فى سياستهم الفعلية، بهذا الموقف بالضبط. وليس النقاش بين هذه الأحزاب حول«الدستور» إجمالا غير نقاش حول ألفاظ: ليس«اليمين» ضد الدوما لكنه يتمسك بالتأكيد على وجوب أن تكون الدوما «مساعدا» دون أى تحديد لحقوقها، ومن جهتهم لا يفكر القوميون والاكتوبريون نهائيا فى المطالبة بحقوق دقيقة للدوما ولا حتى بضمانات فعلية لسلطتها. ويتواطؤ «دستوريو» الاكتوبرية جيدا مع «خصوم الدستور» بالتكيف مع دستور ٣ يونيو.
ويندرج الحقد ضد السكان غير الأصليين واليهود منهم بوجه خاص فى برنامج المئات السود[٢] بصراحة ووضوح ودقة. وكالعادة فإنهم بذلك إنما يعبرون بفظاظة أكثر وبغير مراعاة وبوقاحة عما تخفيه الأحزاب الأخرى بهذا القدر أو ذاك من «الحشمة» والديبلوماسية.
والواقع أن من يعرف قليلا نشاط الدوما وكذا الصحف من قبيل نوفويى فريميا وسفيت[٣] وغولوس وموسكفى، إلخ. يعرف أن القوميين والاكتوبريين يشاركون هم أيضا فى حملة التحريض ضد السكان غير الأصليين.
ينطرح السؤال: ما هى القاعدة الاجتماعية لحزب اليمينيين؟ وما هى الطبقة التى يمثلها ويخدمها؟
عاد هذا الحزب إلى شعارات القنانة ويدافع عن كل ما هو عتيق قروسطى فى الحياة الروسية وهو راض تمام الرضا على دستور ٣ يونيو – دستور الملاكين العقاريين – ويسعى إلى الحفاظ على امتيازات النبلاء والموظفين، وهذا ما يجيب بوضوح عن سؤالنا. اليمين هو حزب المدافعين عن القنانة، حزب مجلس النبلاء الموحدين[٤]. وليس عبثا أن هذا المجلس قام بدور كبير، لا بل بدور قائد، فى حل الدوما الثانية وفى تعديل القانون الانتخابى وفى انقلاب ٣ يونيو[٥].
وتكفى لإبراز القوة الاقتصادية لهذه الطبقة فى روسيا الإشارة إلى واقع جوهرى تدل عليه أرقام الإحصاء الزراعى الحكومي لسنة ١٩٠٥ الذى نشرته وزارة الداخلية.
ففى روسيا الأوربية يملك اقل من ٣٠ ألف مالك عقارى ٧٠ مليون ديسياتين، أى قدر ما تملك ١٠ ملايين أسرة فلاحية من بين المالكة لأصغر قطع ارض. يعنى ذلك ان متوسط ما لدى مالك عقارى هو ٢٣٠٠ ديسياتين، بينما ليس للفلاح فقير وأسرته سوى ٧ ديسياتين.
ومن الطبيعى والأكيد ان الفلاح لن يعيش من هذه «القطعة» وأنه محكوم بموت بطيء! فمجاعات متكررة – كمجاعة السنة الجارية – تضرب ملايين الناس وتواصل مع كل محصول سيء تدمير اقتصاد روسيا الفلاحى. ويضطر الفلاحون إلى اكتراء أرض الملاكين العقاريين مقابل خدمات عمل. ولأجل الوفاء بإيجار الأرض يتعين على الفلاح أن يعمل لصالح المالك العقارى بحصانه وبأدواته. إنها القنانة عينها لا ينقصها سوى الاسم. إن الملاكين العقاريين إذ يملكون ٢٣٠٠ ديسياتين عاجزون، فى اغلب الأحيان، عن استغلال أرضهم سوى بنظام العبودية أى نظام الإتاوات والسخرة. ولا يزرعون سوى قسم من أملاكهم الواسعة بواسطة عمال زراعيين.
ثم إن نفس طبقة أسياد الأراضى هى التى تمد دوما الدولة بالغالبية العظمى من كبار ومتوسطى الموظفين. وتمثل امتيازات الموظفين فى روسيا الوجه الآخر لامتيازات وسلطة الأرض لدى الأسياد. ندرك إذن ان مجلس النبلاء الموحدين وأحزاب «اليمين» المدافعين عن سياسة التقاليد الإقطاعية القديمة لا يفعلون ذلك صدفة بل حتما، وليس نتيجة «سوء إرادة» بعض الأشخاص بل بضغط من مصالح طبقة لا متناهية القوة. ان الطبقة الحاكمة القديمة – من مخلفات الإقطاعية – مع بقائها كما فى السابق الطبقة الحاكمة خلقت لفائدتها حزبا ملائما: «اتحاد الشعب الروسي» أو «يمين» دوما الدولة ومجلس الدولة[٦].
لكن بما أن المؤسسات التمثيلية قائمة، وبما أنه سبق للجماهير ان نزلت إلى الميدان السياسى، كما فعلت عندنا سنة ١٩٠٥، فانه يجب على كل حزب بالضرورة أن يرجع إلى الشعب بصدد هذا الإجراء أو ذاك. لكن باى حجج يمكن لاحزاب اليمين أن ترجع إلى الشعب؟
ليس بوسعهم طبعا أن يدافعوا مباشرة عن مصالح كبار الملاكين العقاريين. انهم يتحدثون بوجه عام عن ضرورة الحفاظ على نظام الأشياء القديم، ويبذلون كامل جهودهم لتحريك الحذر إزاء كافة السكان غير الأصليين وإزاء اليهود بوجه خاص، ويدفعون الناس الأميين تماما والجاهلين تماما إلى اقتراف مذابح ضد اليهود والى مطاردة «اليوتر»[٧] ويسعون إلى إخفاء امتيازات النبلاء والموظفين والملاكين العقاريين بالثرثرة حول «اضطهاد» الروس من قبل السكان غيرالأصليين.
هكذا هو حزب «اليمين». وقد قام أحد أعضائه، بوريشكفيتش، المع خطباء «اليمين» فى الدوما الثالثة، بعمل كثير وناجح ليبرز للشعب ما يريد اليمين وكيف يتصرف ومن يخدم. إن بوريشكفيتش محرض موهوب.
وإلى جانب اليمين، ذى ٤٦ مقعدا فى الدوما الثالثة، يوجد«القوميون» الذين لهم ٩١ نائبا. ولا مدلول بتاتا للفرق الطفيف الذى يميزهم عن اليمين: ليسا فى الجوهر حزبين: انهما حزب وحيد قسم بين أعضائه «عمل» التهييج ضد السكان غير الأصليين وضد «الكاديت» (الليبراليين) والديمقراطيين، الخ. انهم يقومون بنفس العمل، بعضٌ بعنف أشد وبعضٌ آخر بلباقة أكبر. ومن الأفضل للحكومة من جهة أخرى ان يقوم أناس «أقصى» اليمين،القادرون على كل الفضائح، وكل المذابح، وباغتيال أناس مثل هيرزنشتاين ويولوس وكارافاييف، ان يتنحوا جانيا ويتظاهروا، هم، بـ«انتقاد» الحكومة من اليمين.
ليس لما يميز اليمين عن القوميين أى أهمية جدية.
للاكتوبريين فى الدوما الثالثة ١٣١ مقعدا، ومنهم بالطبع «أكتوبريو اليمين». لا يتميز الاكتوبريون عن اليمين فى السياسة الراهنة، لكنهم يتميزون عنهم فى كون هذا الحزب يخدم، علاوة على المالك العقارى، الرأسمالى الكبير، والتاجر التقليدى، والبرجوازية التى خافت خوفا عظيما من نهوض العمال وبعدهم الفلاحين إلى حياة مستقلة، والتى اتجهت نحو الدفاع عن النظام القديم. يوجد بروسيا رأسماليون –وبعدد كبير- يعاملون العمال تماما مثل ما يعامل الأسياد اقنانهم القدامى، ليس العامل والمستخدم بنظرهم غير خدم البيت. لن يستطيع أحد خدمة النظام القديم على نحو افضل من أحزاب اليمين، القوميين والاكتوبريين. وثمة أيضا رأسماليون طالبوا بـ«دستور» سنة ١٩٠٤ و١٩٠٥، فى مؤتمرات الزيمستفو[٨] والبلديات، لكنهم مستعدون، لأجل محاربة العمال، لقبول دستور ٣ يونيو.
إن حزب الاكتوبريين هو الحزب الرئيسى من أحزاب كبار الملاكين العقاريين والرأسماليين المضادة للثورة. أنه الحزب القائد للدوما الثالثة: فالنواب الاكتوبريون(١٣١) ونواب اليمين(١٣٧) والقوميون يشكلون بها أغلبية صلبة.
لقد ضمن قانون يونيو ١٩٠٧ الانتخابى الأغلبية للملاكين العقاريين وكبار الرأسماليين: ففى كل الهيئات الانتخابية الإقليمية التى بعثت نوابا إلى الدوما تتكون الأغلبية من الملاكين العقاريين ومن كبار الناخبين فى المجلس الحضرى الأول (أى مجلس كبار الرأسماليين ). وفى ٢٨ هيئة انتخابية إقليمية تتكون الأغلبية من الملاكين العقاريين وحدهم. لقد تم تحقيق كامل سياسة حكومة ٣ يونيو بمساعدة الحزب الاكتوبرى المسؤول بذلك عن كل ذنوب الدوما الثالثة وجرائمها.
يدافع الاكتوبريون بالقول، فى برنامجهم، عن «الدستور» وحتى عن … الحريات! وفى الواقع ساند هذا الحزب كل الإجراءات المتخذة ضد العمال ( بخصوص مشروع القانون حول التأمينات مثلا تذكروا رئيس اللجنة البرلمانية حول المسألة العمالية البارون تيزنهاوزن!) وضد الفلاحين وضد الحد من التعسف والاستعباد. ان الاكتوبريين حزب حكومى مثل القوميين. وهذا لا يغير شيئا من كون الاكتوبريين يعتمدون بين الفينة والأخرى، لاسيما قبيل الانتخابات، خطابات «معارضة». فأينما وُجدت برلمانات يلاحظ منذ أمد طويل ويلاحظ دوما أن الأحزاب البرجوازية تلعب لعبة المعارضة: هذه اللعبة غير مؤذية لها لانه ليس ثمة حكومة تأخذهم مأخذ جد: إنها مفيدة لها احيانا ازاء الناخب الذى يفيد«تملقه» بخطب معارضة.
لكن المختصين والخبراء الماهرين فى لعبة المعارضة هم الدستوريون «الديمقراطيون» أى حزب الكاديت، حزب المعارضة الرئيسى بالدوما الثالثة، حزب «حرية الشعب».
يا له من مكر اسم هذا الحزب الذى ليس بأى وجه حزبا ديمقراطيا، ولا حزبا شعبيا، أنه ليس حزبا للحرية بل نصف حرية ان لم يكن ربع حرية.
فى الواقع هو حزب البرجوازية الملكية الليبرالية التى تخشى الحركة الشعبية اكثر مما تخشى الرجعية.
إن الديمقراطى يثق فى الشعب، ويثق فى حركة الجماهير، ويساهم فيها بكافة السبل رغم أنه غالبا ما تكون لديه (مثل الديمقراطيين البرجوازيين، الترودوفيك) فكرة خاطئة عن أهمية تلك الحركة فى إطار النظام الرأسمالى. ويطمح الديمقراطى بصدق اكبر إلى القضاء على كل الماضى القروسطى.
إن الليبرالى يخشى حركة الجماهير: يعرقلها ويدافع بوعى عن بعض المؤسسات القروسطية – بل أهمها- كى يؤمن لنفسه سندا ضد الجماهير، لا سيما ضد العمال. ان ما يسعى اليه الليبراليون هو تقاسم السلطة مع أمثال بوريشكيفيتش وليس تدمير كل أسس سلطتهم. كل شيء للشعب وكل شيء من طرف الشعب، هكذا يقول البرجوازى الصغير الديمقراطى (الفلاح بما فيه الترودوفيك)، الذى يريد بصدق تدمير كل أسس نظام أمثال بوريشكفيتش، والذى لا يفهم أهمية نضال العمال الأجراء ضد الرأسمال. وبالعكس يتمثل الهدف الحقيقى للبرجوازية الملكية الليبرالية فى تقاسم السلطة على العمال وعلى صغار المزارعين مع أمثال بوريشكفيتش.
كان لدى الكاديت فى الدوما الأولى والثانية أغلبية أو وضع رجحان. واستعملوا ذلك للعب كوميديا عبثية وغير مجيدة: يمينا لعبوا الولاء والاستوزار (لأننا نستطيع فى الأخير تسوية سلمية لكل التناحرات: عدم تدليل الفلاح وعدم إغضاب بوريشكفيتش ) ويسارا لعبوا النزعة الديمقراطية. يمينا حصل الكاديت فى الأخير، فى متم تلك الكوميديا، على ضربة بالحذاء. ويسارا كسبوا سمعة مستحقة بما هم خونة لحرية الشعب. ولم يناضلوا باستمرار فى الدوما الاولى والثانية ضد الديمقراطية العمالية وحسب، بل حتى ضد الترودوفيك. ويكفى التذكير بأن مشروع الترودوفيك المتعلق باللجان الزراعية المحلية (الدوما الاولى)، هذا المشروع الديمقراطى الأولى، المشروع الديمقراطى البدائى، أسقطه الكاديت بدفاعهم عن رجحان المالك العقارى الكبير والموظف على الفلاح فى لجان القانون الزراعي!
وفى الدوما الثالثة لعب الكاديت لعبة «المعارضة المسؤولة»، «معارضة جلالة الملك»[٩]. وهذا ما جعلهم يصوتون مرارا على ميزانيات الحكومة (الـ«ديمقراطيون»!) وافهموا الاكتوبريين أن مبدأهم حول الاسترداد «القسرى» (يقسر الفلاحي) عديم الخطر وغير مؤذ – تذكروا خطاب بيريزوفسكى – وارسلوا كاراولوف إلى المنبر لالقاء خطب «تقية»، وتنكروا لحركة الجماهير، ونادوا «القمم» ومنعوا من الكلام المستويات الدنيا (صراع الكاديت ضد النواب العمال فى مسالة التأمينات)الخ، الخ.
الكاديت هم حزب الليبرالية المضادة للثورة. وبادعائهم القيام بدور «المعارضة المسؤولة» اى المعترف بها، الشرعية، المقبولة لمنافسة الاكتوبريين، ليس معارضة ضد نظام ٣ يونيو بل معارضة نظام ٣ يونيو، بهذا الادعاء تشوه الكاديت نهائيا بصفتهم «ديمقراطيين». ان الدعاوة الوقحة المفعمة بروح فييخي[١٠] التى قام بها ايديولوجيو الكاديت من امثال ستروفيه وازغوييف وشركائهم المفضوحين من قبل روزانوف وانتونى دو فولهينى، ودور «المعارضة المسؤولة» بالدوما الثالثة هما وجها نفس العملة. تريد البرجوازية الملكية الليبرالية المسموح بها من البوريشكفيتش الجلوس إلى جانب بوريشكفيتش.
لقد أكد اليوم لمرة إضافية تكتلُ الكاديت مع «التقدميين»، لأجل انتخابات الدوما الرابعة ان الكاديت مضادون للثورة بعمق. ليس لدى التقدميين أى ادعاء لنزعة ديمقراطية ما: لا ينبسون ببنة شفة حول ضرورة محاربة نظام ٣ يونيو بمجمله، ولا يحلمون بأى «اقتراع عام». انهم ليبراليون معتدلون لا يخفون قرابتهم مع الاكتوبريين. يجب ان يفتح تحالف الكاديت والاكتوبريين أعين حتى العمى ضمن «المرؤوسين المعاونين الكاديت» حول الطبيعة الحقيقية لحزب الكاديت.
الديمقراطية البرجوازية فى روسيا يمثلها الشعبويون من كل التنويعات من الاشتراكيين-الثوريين الأكثر راديكالية حتى الاشتراكيين-الشعبويين والترودوفيك. كلهم يستعملون كلمات «اشتراكية» لكنه غير مسموح لعامل واع بأن يخطأ حول دلالتها. فى الواقع لا توجد قطرة واحدة من الاشتراكية فى «الحق فى الارض» وكذا فى «التوزيع المتساوي» وفى «تشريك الارض». هذا ما يتعين أن يفهمه كل من يعرف ان إلغاء الملكية الخاصة للأرض وتوزيعها الجديد، مهما بلغ من «العدل»، لا يمس الانتاج السلعى وسلطة السوق والمال والرأسمال، بل على العكس يزيد تطويرها على نحو أوسع.
لكن الجمل حول «مبدأ العمل» وحول «الاشتراكية الشعبوية» تعبر عن الإيمان العميق (والرغبة الصادقة) لدى الديمقراطى فى إمكانية وضرورة إلغاء كافة الأشكال القروسطية لملكية الأرض وللنظام السياسى.ان كان الليبراليون (الكاديت) يرغبون فى تقاسم السلطة السياسية والامتيازات السياسية مع البوريشكفيتشيين فان الشعبويين ديمقراطيون لانهم بالضبط يرغبون،وعليهم ان يرغبوا، فى اللحظة الراهنة، فى إلغاء كافة الامتيازات المرتبطة بملكية الأرض وكافة الامتيازات السياسية.
إن وضع الفلاحين الروس، فى سوادهم الأعظم، لا يتيح التفكير فى مساومة (ممكنة تماما وعزيزة على الليبراليين) مع البوريشكيفيتشيين. هذا ما يجعل النزعة الديمقراطية لدى البرجوازية الصغيرة لها فى روسيا، لأمد طويل، جذور فى الجماهير، ولم يخلق الاصلاح الزراعى لستوليبين[١١]، هذه االسياسة البرجوازية للبوريشكفيتشيين الموجهة ضد الموجيك، أى شيء متين ان لم يكن … المجاعة التى ضربت ٣٠ مليون انسان!
لا يمكن لملايين المزارعين الصغار ضحايا المجاعة الا ان يطمحوا إلى اصلاح زراعى آخر، اصلاح ديمقراطى من شأنه، دون الخروج عن اطار النظام الرأسمالى، دون الغاء عبودية الأجرة، ان يكنس من وجه الأرض الروسية الأشكال القروسطية.
الترودوفيك ضعاف جدا فى الدوما الثالثة، لكنهم يمثلون الجماهير. وحتما ينبع تأرجح الترودوفيك بين الكاديت والديمقراطية العمالية من الموقع الطبقى لصغار المالكين، وتؤدى الصعوبة القصوى فى تجميعهم وتنظيمهم وتربيتهم إلى اضفاء طابع غير دقيق ولا شكلى للغاية على الترودوفيك بصفتهم حزبا. هذا ما يجعل الترودوفيك المساعدين بـ«الاوتزوفية» البليدة لشعبويى اليسار يبدون فى صورة يرثى لها لحزب عرضة للتصفية.
الفرق بين التنرودوفيك وتصفويينا شبه الماركسيين هو أن الأولين تصفويون بالضعف بينما هؤلاء تصفويون بسوء نية. مساعدة الديمقراطيين البرجوازيين الصغار الضعاف وانتزاعهم من تأثير الليبراليين وتشكيل معكسر للديمقراطية ضد الكاديت المضادين للثورة وليس فقط ضد اليمينيين: تلك هى مهمة الديمقراطية العمالية.
أما بشأن هذه الاخيرة التى كانت لها مجموعتها فى الدوما الثالثة فليس بوسعنا أن نقول سوى القليل.
فى كل مكان بأوربا تشكلت أحزاب الطبقة العاملة بانتزاع نفسها من تأثير الأيديولوجيا الديمقراطية العامة، وبتعلم القيام بالتمييز بين نضال العمال الأجراء ضد الرأسمال والنضال ضد الإقطاعية، وذلك بوجه خاص لاجل تأجيج هذا النضال الأخير قصد التخلص من كل عنصر تردد وتقلب. فى روسيا انفصلت الديمقراطية العمالية بوضوح سواء عن الليبرالية أو عن الديمقراطية البرجوازية (من الاتجاه الترودوفيكي) لأجل مصلحة الديمقراطية بوجه عام.
يتقاسم التيار التصفوى فى الديمقراطية العمالية (ناشا زاريا وجيفويى دييلو) ضعف الترودوفيك ويمجد انعدام الشكل ويطمح إلى دور معارضة «مسموح بها»، ويرفض هيمنة العمال ويكتفى بالحديث عن تنظيم «شرعي» (مع اذلال ذلك الذى ليس شرعيا) ويدعو إلى سياسة عمالية ليبرالية. وجلى ان هذا التيار ناتج عن الانحطاط والاحباط الخاصين بحقبة الثورة المضادة. ويغدو جليا أن ينفصل عن الديمقراطية العمالية.
ان العمال الواعين إذ يتحدون، دون تصفية أى شيء، لمحاربة التأثيرات الليبرالية وينظمون صفوفهم بما هم طبقة، ويطورون كل إمكانات التجميع النقابى، الخ. يعملون فى نفس الوقت كمثلين للاجراء ضد الرأسمال وكممثلين للديمقراطية الحازمة ضد مجموع النظام البائد فى روسيا وضد كل ميل إلى تقديم تنازلات لهذا النظام.
على سبيل التوضيح ننشر المعلومات المتعلقة بالتركيب السياسى للدوما الثالثة اقتبسناها من الحولية الرسمية للدوما سنة ١٩١٢.
الأحزاب فى الدوما الثالثة
كبار الملاكين العقاريين |
اليمين | ٤٦ |
القوميون | ٧٤ |
القوميون المستقلون | ١٧ |
اكتبريو اليمين | ١١ |
الاكتبريون | ١٢٠ |
مجموع الأحزاب الحكومية | ١٦٨ |
|
البرجوازية |
التقدميون | ٣٦ |
الكاديت | ٥٢ |
الاتحاد البولوني(كولو)[*] | ١١ |
مجموعة البولونيين والليتوانيين والروس البيض | ٧ |
مجموعة المسلمين | ٩ |
مجموع الليبراليين | ١١٥ |
|
الديمقراطية البرجوازية |
مجموعة الترودوفيك | ١٤ |
الديمقراطية العمالية |
الاشتراكيون الديمقراطيون | ١٣ |
مجموع الديمقراطيين | ٢٧ |
|
اللامنتمون حزبيا | ٢٧ |
المجموع | ٤٣٧ |
كانت الدوما الثالثة تضم أغلبيتين: ١) اليمين والأكتوبريون = ٤٣٧٢٦٨ من، الأكتوبريون والليبراليون = ١٢٠ + ١١٥ = ٢٣٥ من ٤٣٧ وكانت الأغلبيتان مضادتين للثورة.
[١]
المقصود توحيد ألمانيا الذي قامت به «من فوق» الطبقات الحاكمة بفضل سياسة« حديد ودم». وغداة الحرب بين بروسيا والنمسا اسس الاتحاد الجرماني الشمالي وبعد الحرب الفرنسية البروسية في ١٨٧٠-١٨٧١ اسست الامبراطورية الجرمانية.
[٢]
المئات السود: عصابات ملكية تجندها الشرطة لمحاربة الحركة الثورية. تقوم باغتيال الثوريين ومهاجمة المثقفين التقدميين وتنظم مذابح لليهود .
[٣]
«سفيت» [النور] جريدة يومية قومية بورجوازية صدرت في بطرسبورغ من ١٨٨٢ إلى ١٩١٧. «غولوس موسكفي» [صوت موسكو] جريدة يومية لسان الاكتوبريين، حزب البرجوازية الكبيرة الصناعية وكبار المالكين العقارين، المضاد للثورة، صدرت في موسكو من ١٩٠٦ إلى ١٩١٥.
[٤]
مجلس النبلاء الموحدين: منظمة للمالكين العقاريين الاقطاعيين مضادة للثورة أُسست سنة ١٩٠٦ خلال مؤتمر منتدبي الجمعيات الاقليمية للنبلاء. دام وجودها إلى اكتوبر ١٩١٧. كان هدفها الاساسي الدفاع عن النظام الاتوقراطي وعن الملكية العقارية الكبيرة وعن امتيازات النبلاء. سماها لينين مجلس الاقطاعيين الموحدين. تحولت هذه المنظمة عمليا إلى هيأة شبه حكومية تملي على الحكومة الاجراءات التشريعية الرامية إلى الدفاع عن مصالح الاقطاعيين. وكان عدد كبير من عناصرها اعضاء بمجلس الدولة وبالهيئات القيادية لمنظمات المئات السود.
[٥]
المقصود بيان القيصر يوم ٣ يونيو ١٩٠٧ القاضي بحل الدوما الثانية وتغيير القانون الانتخابي على نحو يزيد تمثيلية المالكين العقاريين والبرجوازية التجارية والصناعية بالدوما ويقلص تمثيلية الفلاحين الضعيفة اصلا. وكان ذلك خرقا سافرا لبيان ١٧ اكتوبر ١٩٠٥ والقانون الاساسي لـ١٩٠٦ القاضيان بعدم اصدار الحكومة لأي قانون دون موافقة الدوما. كان انقلاب ٣يونيو فاتحة لحقبة الرجعية الستوليبينية.
[٦]
مجلس الدولة: إحدى اعلى الهيئات الحكومية في روسيا قبل الثورة. تأسس سنة ١٨١٠ ليكون هيئة استشارية يعين اعضاؤها من طرف القيصر. أعيد تنظيمه سنة ١٩٠٦ واسند اليه حق المصادقة على مشاريبع القوانين أو رفضها بعد مناقشتها في دوما الدولة لكن حق تغيير القوانين الأساسية واصدار قوانين بالغة الاهمية يظل بيد القيصر. ابتداء من ١٩٠٦ تشكل نصف مجلس الدولة من من منتخبين عن النبلاء ورجال الدين والبرجوازية الكبيرة والنصف الاخر من كبار موظفين يعينهم القيصر. وبفضل هذا كان مجلس الدولة مؤسسة رجعية حصرا يرفض حتى مشاريع القوانين المعتدلة التي تقبلها دوما الدولة.
[٧]
شتيمة عنصرية ينعث بها اليهودي
[٨]
الزيمستفو: الادارة المحلية المستقلة، اسست سنة ١٨٦٤ في الاقاليم الوسطى لروسيا القيصرية ويسيرها النبلاء. كانت سلطات الزيمستفو محدودة في الشؤون المحلية (بناء المستشفيات والطرق والاحصاء والـتأمينات ،الخ ) كانت انشطتها مراقبة من حكام الاقاليم ووزارة الداخلية الذي كان بامكانهما الغاء الاجراءات التي لا تروق الحكومة.
[٩]
يلمح لينين إلى خطاب القاه ميليوكوف في يونيو ١٩٠٩ في غذاء عند اللورد عمدة لندن خلال زيارة وفد من دوما الدولة الثالثة ومجلس الدولة لانجلترا. كان ميليوكوف قد اكد وفاء الكاديت للحكم المطلق القيصري مؤكدا على انه طالما بقيت دوما في روسيا " ستظل المعارضة الروسية معارضة جلالة الملك وليس معارضة ضد جلالة الملك".
[١٠]
فييخى (المعالم) كتاب نشره الكاديت في موسكو في ربيع ١٩٠٩ ضم مقالات لممثلي البرجوازية الليبرالية المضادة للثورة. حاول مؤلفوه في المقالات المخصصة للمثفين الروس افقاد الاعتبار للتقاليد الديمقراطية الثورية لدى افضل ممثلي الشعب الروسي وبوجه خاص بيلينسكي وتشيرنيشيفسكي وشتموا الحركة الثورية لعام ١٩٠٥ وشكروا الحكومة القيصرية على انقاذها للبرجوازية من «هيجان الشعب»«بفضل بنادقها وسجونها ». وكان الكتاب يدعو المثقفين إلى خدمة القيصرية. وصف لينين الكتاب ب«موسوعة الارتداد الليبرالي» وب«سيل الوحل الرجعي المنسكب على الديمقراطية».
[١١]
يقصد لينين القوانين الزراعية التي سنها ستوليبين واصدرتها الحكومة القيصرية في نوفمبر ١٩٠٦. كان هدفها خلق طبقة كولاك مساندة للاوتوقراطية القيصرية في القرى والحفاظ على الملكية العقارية الكبيرة وتدمير الجماعة الفلاحية. سرعت السياسة الزراعية لستوليبين تطور الرأسمالية في الزراعة وفق «الطريق البروسي» الاكثر ايلاما وحافظ الملاكون العقاريون الكبار على ملكياتهم وسلطاتهم وامتيازاتهم بينما صودرت ملكية الجماهير الفلاحية وتطورت برجوازية قروية قادرة على استرداد قطع ارض الفلاحين الفقراء مقابل لقمة خبز. يرى لينين في التشريع الزراعي لستوليبين سنة ١٩٠٦ ( وكذلك الصادر في ١٩١٠) الاجراء الثاني (يتمثل الاول في اصلاح ١٨٦١) الرامي إلى تحويل الاوتوقراطية الاقطاعية إلى ملكية بورجوازية. أدت السياسة الزراعية لستوليبين، التي لم تلغ التعارض الأساسي بين الفلاحين وكبار الملاكين العقاريين، إلى خراب الجماهير الفلاحية واحتداد التناقضات الطبقية بين الكولاك والفلاحين الفقراء.
[*]
كولو البولوني: اتحاد النواب البولونيين في دوما الدولة في مجلسي الدوما الأول والثاني كانت النواة القيادية لهذا الاتحاد تنتمي إلى القوميين-الديمقراطيين أعضاء الحزب القومي الرجعي للمالكين العقاريين والبرجوازية في بولونيا. وفي كل المسائل التكتيكية الأساسية ساند كولو البولوني الأكتوبريين.
صدرة للمرة الاولى فى ١٠ ماى ١٩١٢
في جريدة نفسكايا زفزدا العدد ٥
مصدر النسخة المترجمة: الأعمال (بالفرنسية) دار التقدم – موسكو – طبعة١٩٧٥ – الجزء ١٨، صفحات من ٣٨ إلى ٥٠.
ترجمة ونسخ: جريدة المناضل-ة (فبراير ٢٠٠٥)
|
|