مسألة ملحة
و. ای. لينين
قلنا فى المقال السابق إن مهمتنا الملحة تمثلت فى تأسيس جريدة للحزب تصدر وتوزع بانتظام وتساءلنا عن إمكان ذلك وعن شروطه. لنتفحص الآن الجوانب الرئيسية لهذه المسألة.
قد نـُواجه بادئ ذى بدء باعتراض مؤداه أن بلوغ هذا الهدف يستوجب البدء بتطوير نشاط المجموعات المحلية. إننا نرى أن هذا الرأى، الذائع فوق ذلك، خاطئ. يجب علينا وبإمكاننا القيام دون تأخير بتأسيس وإرساء جريدة للحزب وبالتالى الحزب نفسه. والشروط اللازمة لذلك مستوفاة: فالنشاط المحلى متواصل وجلى ؛ إنه بات راسخ الجذور لأن ضربات الشرطة المتواترة أكثر فاكثر لا تخل به أبدا لأمد طويل، وتحل قوى طرية محل المناضلين الذين سقطوا فى المعركة. ويملك الحزب الأموال اللازمة لانشطة النشر وقد ضمن المساعدة من متعاونين أدبيين بالخارج وبروسيا على السواء. إن المقصود إذن معرفة مدى وجوب مواصلة النشاط الذى يجري على النمط «الحرفي» أو وجوب تنظيمه لأجل أن يصبح نشاط الحزب الموحد بكامله والعمل لينعكس بكامله فى جريدة واحدة مشتركة.
نتناول هنا مشكل حركتنا الملحّ ونقطتها الحساسة: التنظيم. إن تحسين التنظيم والانضباط الثورى وإتقان تقنية العمل السرى، كلها ضرورة قصوى. و يجب الاعتراف صراحة أننا متأخرون بهذا الصدد عن الأحزاب الثورية القديمة وأن علينا بذل قصارانا للحاق بهم وتجاوزهم. وبوجه عام يتعذر أى تقدم لحركتنا العمالية دون تنظيم أفضل وهذا شرط يسرى أيضا بوجه خاص على خلق حزب نشيط مزود بهيئة مشتغلة بانتظام. هذا من جهة أما من جهة أخرى فيجب على هيئات الحزب (اقصد الجرائد والمؤسسات والمجموعات على السواء) أن تولى مزيدا من الاهتمام لمشاكل التنظيم والعمل فى هذا الاتجاه لدى المجموعات المحلية.
يؤدى دوما العمل المحلى على النمط «الحرفي» إلى إفراط فى العلاقات الشخصية وينمى ذهنية المجموعة[١]، والحال أننا تجاوزنا هذا الطور الذى أصبح يضيق جدا عن العمل الراهن ويفضى إلى تبذير القوى. ووحده الانصهار فى حزب واحد سيتيح تطبيقا منهجيا لمبادئ تقسيم العمل واقتصاد القوى، و هو الأمر الذى لا غنى عنه لتقليص الخسائر ونصب متراس متين إلى هذا الحد أو ذاك ضد نير الحكومة الاتوقراطية وسياستها القمعية المغالية. تنتصب ضدنا، وضد زمر الاشتراكيين اللاجئين إلى السرية عبر روسيا الواسعة، الآلية الجبارة للدولة الحديثة كلية القدرة التى تنشر كامل قواها لخنق الاشتراكية والديمقراطية. إننا واثقون من أننا سنتمكن أخيرا من هزم هذه الدولة البوليسى لأن الديمقراطية والاشتراكية تحظيان بدعم كل الشرائح السليمة والصاعدة من الشعب برمته. لكن خوض نضال منظم ضد الحكومة يتطلب منا إتقان التنظيم الثورى والانضباط وتقنية العمل السرى غاية الإتقان. ولابد من تخصص أعضاء الحزب ومجموعاته فى مختلف مجالات نشاطه: استنساخ النصوص، وإدخال المطبوعات من الخارج إلى روسيا، والنقل عبر روسيا، والتوزيع بالمدن، وتنظيم مقرات سرية، وجمع المال، وإيصال المراسلات وكل المعلومات حول الحركة، وتنظيم الصلات، الخ . ونعلم أن هكذا تخصصا يقتضى قدرا أكبر بكثير من المكابدة والقدرة على التركيز على عمل بسيط، ومجهول، وغامض ومزيدا من البطولة الحقيقية أكثر من العمل الجارى عادة فى الحلقات.
لكن الاشتراكيين الروس والطبقة العاملة الروسية أبانوا من قبل أنهم يعرفون كيف يكونوا أبطالا، وبوجه عام لا مجال للشكوى من قلة القوى . إذ نلاحظ بين العمال الشباب اندفاعة متقدة وقوية لا تقهر نحو أفكار الديمقراطية والاشتراكية، ويواصل المثقفون إقبالهم الغزير لمساعدة العمال رغم اكتظاظ السجون والمنافى. إذا جرى نشر واسع لفكرة الحاجة إلى منظمة ثورية أشد صرامة بين هؤلاء المنتسبين الجدد إلى قضية الثورة ، فلن يظل إرساء جريدة حزبية منتظمة الإصدار والتوزيع حلما.
فلنتناول إحدى شروط نجاح هذه الخطة: مد الجريدة بانتظام بالمراسلات و المواد من كل المصادر. ألا يبرهن التاريخ أنه فى كل مراحل تنامى نشاط حركتنا الثورية تبينت قابلية تحقيق هذا الهدف حتى فيما يتعلق بالجرائد الصادرة بالخارج؟ إذا اعتبر الاشتراكيون-الديمقراطيون المناضلون فى مختلف الجهات جريدة الحزب جريدتهم، واعتبروا أن واجبهم الأول متمثل فى الصلة الدائمة بها وفى جعلها منبرا لمناقشة ما يشغلهم من مسائل ولعكس كامل حركتهم، فمن الممكن تماما جعل الجريدة على علم بالحركة بشرط مراعاة قواعد العمل السرى، تلك القواعد التى ليس لها أى طابع سحرى. وهاكم وجه آخر للمسألة: إيصال الجرائد بانتظام إلى كل جهات روسيا أمر أشق وأشق مما كان بأشكال الحركة الثورية الروسية القديمة، حين كانت غير موجهة بنفس القدر إلى الجماهير الشعبية. لكن وجهة الصحافة الاشتراكية-الديمقراطية تسهل توزيعها. فالأماكن الرئيسية التى يجب أن تصلها الجريدة بانتظام وبعدد كبير من النسخ هى المراكز الصناعية والمدن و البلدات التى توجد بها معامل والأحياء الصناعية بالمدن الكبرى، الخ. إنها مراكز يقطنها بالكامل تقريبا عمال، والعامل فيها سيد الوضع فعلا و لديه مئات وسائل خدع الشرطة والعلاقات بالمراكز الصناعية المجاورة نشيطة للغاية. لم تكن الشرطة الألمانية، فى حقبة القوانين الاستثنائية ضد الاشتراكيين (من ١٨٧٨ إلى ١٨٩٠)[٢] تقوم بعملها على نحو أقل اتقانا، لا بل ربما كان تعمل على نحو أفضل من الشرطة الروسية، ومع ذلك تمكن العمال الروس، بفضل روح التنظيم والانضباط لديهم، من ايصال جريدتهم الأسبوعية السرية القادمة من الخارج إلى بيوت كافة المشتركين، لدرجة ان الوزراء أنفسهم انذهلوا من سير عمل البريد الاشتراكي-الديمقراطى (البريد الأحمر). طبعا نحن لا نحلم بنجاح من ذلك القبيل لكن بوسعنا تماما، إذا بذلنا قصارانا، جعل جريدتنا تصدر ١٢ مرة فى السنة بالأقل وتصل بانتظام إلى مراكز الحركة الرئيسية والى كل الأوساط العمالية المتأثرة بالاشتراكية.
نعود إلى مشكلة التخصص لنشير إلى ان ضعفه يعود جزئيا إلى غلبة العمل «الحرفي» كما إلى كون جرائدنا الاشتراكية الديمقراطية تعودت ألا تولى المشاكل التنظيمية سوى اهتماما ضئيلا جدا.
إن خلق جريدة مركزية للحزب من شأنه ، دون غيره، ان يعطى لكل «مناضل جزئي» من مناضلى القضية الثورية شعور السير «فى الصفوف» ووعى ان عمله ضرورى بشكل مباشر للحزب، وانه إحدى حلقات السلسلة التى ستخنق ألد أعداء البروليتاريا الروسية والشعب الروسى. وان التطبيق الصارم لهذا التخصص سيتيح، دون غيره، اقتصاد قوانا: لن يكون كل نشاط ثورى موضوع تنفيذ من قبل مجموعة اقل عددا وحسب بل سيتأتى القيام على صعيد علني ببعض أوجه النشاط الحالى. لقد سبق، منذ أمد طوى، أن نصحت الجريدة الاشتراكية-الديمقراطية الألمانية « إلى الأمام» الاشتراكيين الروس بإضفاء الشرعية على نشاطهم وتنظيمه فى إطار شرعى. ان هكذا نصيحة مفاجئة للوهلة الأولى لكنها فى الواقع جديرة بالتفحص الجدى.
بسهولة يتذكر كافة المناضلين تقريبا، ممن عملوا فى حلقة محلية بمدينة ما، كيف ان جملة من مشاغلهم المختلفة كانت بحد ذاتها شرعية (جمع معلومات حول أوضاع العمال، ودراسة التوثيق الشرعى حول جملة أمور، والاطلاع على مطبوعات وكتب أجنبية وتقديم كشوف عنها، وربط بعض العلاقات، ومساعدة العمال على تحصيل تعليم عام وعلى معرفة قانون الشغل، إلخ.).
إذا جرى إسناد هذه الوظائف الخاصة إلى فئة محددة من الأشخاص، فسنخفض أعداد الجيش الثورى النشيط المعرضة لـ«النيران» دون أى خفض كان لـ«قدراتها القتالية») ونزيد من الأعداد الاحتياطية الذى ستسد الثغرات التى خلفها «القتلى» و«الجرحى». ولن يتأتى ذلك إلا عندما يرى الأعضاء النشيطون والاحتياطيون على السواء نشاطهم ينعكس فى جريدة الحزب المركزية ويحسون أنهم على صلة بها. وطبعا ستظل الاجتماعات المحلية للعمال والمجموعات ضرورية مهما بلغ مستوى التخصص. لكن من جهة سينخفض على نحو جلى عدد الاجتماعات الثورية الكبرى (الخطيرة بوجه خاص من وجهة نظر القمع البوليسى والتى غالبا ما تكون نتيجتها غير متناسبة مع ما تنطوى عليه من خطر) ومن جهة أخرى إذا جعلنا بعض وظائف العمل الثورى وظائف خاصة فسنتمكن بسهولة أكبر من تمويه تلك الاجتماعات بشكل شرعى، و تنظيمها فى شكل اجتماعات ترفيه واجتماعات جمعيات مرخصة قانونيا، إلخ. لقد كان العمال الفرنسيون فى ظل نابليون والعمال الألمان فى ظل القوانين الاستثنائية ضد الاشتراكيين يعرفون كيف يبدعون كل أنواع الذرائع لتمويه اجتماعاتهم السياسية والاشتراكية. وسيعرف الروس كيف يأتون بالمثل.
فقط بتحسين التنظيم وتأسيس جريدة مركزية للحزب يمكن توسيع وتعميق الدعاوة والتحريض الاشتراكيين الديمقراطيين. والحال أننا بحاجة ماسة إلى ذلك. إن العمل المحلى يكاد يؤدى دوما إلى مبالغة الخصوصيات المحلية و إلى ………[٣] وهو أمر مستحيل فى جريدة مركزية تكون فى نفس الوقت جريدة ديمقراطية طليعية. آنذاك فقط يصبح طموحنا إلى جعل الاشتراكية-الديمقراطية مكافحا طليعيا من أجل الديمقراطية واقعا و آنذاك فقط يمكننا أيضا وضع تكتيك سياسى محدد. لقد رفضت الاشتراكية الديمقراطية عقيدة «كتلة رجعية واحدة» الخاطئة[٤]. وترى أن إحدى أهم مهام السياسة هى استعمال دعم الطبقات التقدمية ضد الطبقات الرجعية. عندما تكون المنظمات والجرائد ذات طابع محلى لا تـُحقق هذه المهمة، إذ يجرى الاقتصار على العلاقات ببعض «الليبراليين» للحصول على «خدمات مختلفة». إن جريدة مركزية للحزب، تطبق بمنهجية مبادئ النضال السياسى و ترفع عاليا راية الديمقراطية، كفيلة دون غيرها بجذب كل العناصر الديمقراطية الكفاحية والإفادة من مجموع القوى التقدمية بروسيا فى النضال لأجل الحرية السياسية. آنذاك فقط يمكننا تحويل حقد العمال المخنوق ضد الشرطة والسلطات إلى حقد واع ضد الحكومة الاتوقراطية وإلى عزم قوى على شن نضال ضار لأجل حقوق الطبقة العاملة والشعب الروسى برمته. و سيكون حزب ثورى مؤسس على هكذا قاعدة ومنظم بصرامة قوة سياسية بالغة الأهمية فى روسيا الحديثة. سننشر فى الأعداد المقبلة مشروع برنامج الحزب الاشتراكي-الديمقراطى الروسى وسنقوم بفحص أوسع لمختلف مسائل التنظيم.
[١]
المقصود ذهنية جماعة محلية وليس ذهنية حزب عامل على صعيد وطنى (م).
[٢]
القانون الاستثنائى ضد الاشتراكيين صدر بألمانيا سنة ١٨٧٨ وقضى بمنع جميع منظمات الحزب الاشتراكي-الديمقراطى والمنظمات العمالية الجماهيرية والصحافة العمالية وكانت المطبوعات الاشتراكية عرضة للحجز و الاشتراكيون الديمقراطيون عرضة للطرد. وقد ألغى ذلك القانون سنة ١٨٩٠ بفضل ضغط الحركة العمالية الجماهيرية.
[٣]
هذا القسم من المخطوط مفقود.
[٤]
إنها أطروحة اللاساليين الشهيرة التى مؤداها أن باقى الطبقات تشكل، بالنسبة للطبقة العاملة، كتلة رجعية واحدة. جاءت تلك الأطروحة فى برنامج صادق عليه الاشتراكيون-الديمقراطيون الألمان سنة ١٨٧٥ فى غوتا عند توحيد الحزب الاشتراكيين: حزب الازناخيين وحزب اللاساليين. كشف ماركس طابع هذه الأطروحة غير الثورى فى "نقد برنامج غوتا".
كتب لينين "برنامجنا" و"مهمتنا الآنية" و"مسألة ملحة" خلال فترة نفيه. وقد كان ينوى نشر المقالات فى صحيفة Rabochaya Gazeta التى كانت متبناة كعضو رسمى لحزب المؤتر الأول للـR.S.D.L.P. تم القيام ببعض المحاولات لإعادة اصدار الجريدة سنة ١٨٩٩ واقترح فريق التحرير أن يتحمل لينين رئاسة التحرير. ثم بعد ذلك التعاون على التحرير، فأرسل لينين هذه المقالات مع رسالة لفريق التحرير. لكن محاولة تجديد الاصدار كانت غير ناجحة و لم يتم أبدا طباعة المقالات.
|