مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية
ملحق
قبل أن تنتهي دور الطبع والنشر في بلادنا التي نهبها امبرياليو العالم كله، انتقاما من الثورة الامبريالية، ولا يزالون ينهبونها ويحاصرونها، رغم كل الوعود التي كالوها لعمالهم، أقول، قبل أن تنتهي دور الطباعة من مهمة طبع كراستي، وصلتني مواد إضافية من خارج البلاد وأنا سأطرق باختصار إلى بعض النقاط، دون أن أدعي بأن في كراستي شيئا أكثر من مذكرات عابرة لكتاب سياسي.
* * *
١. انشقاق الشيوعيين الألمان
إن إنشقاق الشيوعيين الألمان أمرا واقعاً. فقد شكل «اليساريون» أو «المعارضة المبدئية» حزبا خاصا هو «حزب العمال الشيوعي» تمييزا له عن «الحزب الشيوعي». وفي إيطاليا كذلك، تسير الأمور، حسب الظاهر، نحو انشقاق وشيك. وأقول: حسب الظاهر، لأن عندي عددين إضافيين فقط (٨ و٨) من الجريدة اليسارية «السوفييت» («Il Soviet») وفيها تناقش علنا مسألة إمكانية وضرورة الانشقاق، كما أن الحديث يدور كذلك حول مؤتمر كتلة «الممتنعين» (أو المقاطعين ونعني المناوئين للاشتراك في البرلمان)، الكتلة التي لا تزال حتى الآن جزءاً من الحزب الاشتراكي الإيطالي.
وقد يخشى من أن الانشقاق مع «اليساريين» والمناوئين للبرلمان (الذين هم لحد ما مناوئي السياسة وخصوم الأحزاب السياسية ومناهضي النشاط في النقابات) سيغدو ظاهرة عالمية، على غرار الانشقاق مع «الوسطيين» (أو الكاوتسكيين واللونغيتيين و«المستقلين» ومن اليهم). فليكن كذلك، فالانشقاق على كل حال أفضل من البلبلة التي تعيق سواء النمو الفكري والنظري والثوري للحزب ونضوجه، وتعيق كذلك نشاطه العملي المنسجم المنظم تنظيما حقيقيا الذي يمهد الطريق الحقيقي لديكتاتورية البروليتاريا.
دع «اليساريين» يمتحنون أنفسهم في العمل في النطاق الوطني والعالمي، دعهم يحاولون التمهيد لديكتاتورية البروليتاريا (ثم تحقيقها) بدون حزب ذي مركزية قوية وانضباط حديدية، وبدون القدرة على العمل في جميع مجالات النشاط السياسي والثقافي ونواحيه وجميع أنواعه وألوانه. إن التجربة العملية ستعلمهم سريعا.
ولكن ينبغي أن تبذل جميع الجهود كي لا يوجد الانشقاق مع «اليساريين» المصاعب، أو كي يوجد مقداراً أقل ما يمكن من المصاعب في طريق اندماج جميع العاملين في حركة العمال، ممن يسندون الحكم السوفييتي وديكتاتورية البروليتاريا بإخلاص ونزاهة، في حزب واحد، ذلك الاندماج الضروري والمتوقع حتما في مستقبل قريب. قبل التضال الجماهيري المباشر من أجل ديكتاتورية البروليتاريا كانت لديهم فرصة خمسة عشر عاماً شنوا فيها ضد المناشفة (أي الانتهازيين و«الوسطيين») وضد «اليساريين» على حد سواء نضالاً منظماً وأوصلوه إلى النهاية. ومن الواجب الآن في أوروبا وأمريكا أن ينجز هذا العمل ذاته «بخطوات متسارعة». هناك بعض الأفراد، وخاصة بين مدعي الزعامة الفاشيين، بإمكانهم (إذا كان يعوزهم روح الطاعة البروليتارية و«شرف النفس») أن يصروا على اخلاصهم زمنا طويلا. ولكن جماهير العمال تتحد هي نفسها بسهولة وسرعة، عندما تأزف الساعة، وتوحد جميع الشيوعيين المخلصين في حزب واحد قادر على إقامة النظام السوفييتي وديكتاتورية البروليتاريا[١].
٢. الشيوعيون والمستقلون في ألمانيا
لقد ابديت في الكراس رأيي بأن المساومة بين الشيوعيين والجناح اليساري للمستقلين أمر ضروري ونافع للشيوعية، لكن تحقيق ذلك سوف لا يكون أمراً سهلاً. واعداد الجرائد التي تلقيتها فيما بعد قد أكدت الأمرين. ففي العدد رقم ٣٢ في «العلم الأحمر»، لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الألماني ("Die Rote Fahne", Zentralorgan der Kommunistischen Partei Deutschland , Spartakusbund) الصادرة في (٢٦/٠٣/١٩٢٠) نشر «بيان» للجنة المركزية هذه بصدد مسألة «البوتش» العسكري (وهو مؤامرة أو مغامرة) الذي قام به كاب ولوتفيتز وبصدد «الحكومة الاشتراكية». وهذا البيان صحيح كل الصحة، سواء من وجهة نظر المقدمة الأساسية أو من وجهة نظر النتيجة العملية. فالمقدمة الأساسية تتلخص في أنه لا يوجد «أساس موضوعي» لديكتاتورية البروليتاريا في اللحظة الراهنة، لأن «أكثرية عمال المدن» تؤيد المستقلين. أمّا النتيجة فهي وعد باتخاذ موقف «معارضة أمنية» (أو ما معناه ترك الاستعداد «لاسقاط قسري») تجاه الحكومة «الاشتراكية في حالة إخراج الأحزاب البرجوازية الرأسمالية منها».
فالتكتيك من حيث الأساس صحيح دون شك. ولكن إذا كان لا يقتضي أن نتوقف عند التفاصيل غير الدقيقة من الصيغة، فإن كان من غير الجائز أن نمسك عن الكلام، ولا نقول أنه من غير الجائز أن تسمى حكومة الاشتراكيين الخونة (في بيان رسمي للحزب الشيوعي) حكومة «إشتراكية»، وان من غير الجائز التحدث عن إخراج «الأحزاب البرجوازية الرأسمالية»، في حين أن أحزاب شيدمان وأمثاله والسيدين كاوتسكي وكريسبين وأمثالهما هي أحزاب البرجوازية الصغيرة الديموقراطية، وأن من غير الجائز كتابة أشياء كالتي وردت في الفقرة الرابعة من البيان التي تنص بما يلي:
«… من أجل اطراد جذب الجماهير البروليتارية إلى جانب الشيوعية، تتسم بأهمية كبرى من وجهة نظر تطور ديكتاتورية البروليتاريا، حالة يمكن فيها أن يستفاد من الحرية السياسية دونما تقييد، كما لا يمكن فيها للديموقراطية البرجوازية أن تنبري كديكتاتورية لرأس المال…».
إن تلك الحالة لأمر مستحيل، فالزعماء البرجوازيون الصغار، أمثال هندرسون في ألمانيا (شيدمان وأمثاله) وأمثال سنودن (كريسبين ومن اليه) لا يخرجون ولا يستطيعون أن يخرجوا من اطار الديموقراطية البرجوازية التي لا يمكنها بدورها إلاّ أن تكون ديكتاتورية رأس المال. لم تكن هناك حاجة أبدا لكتابة هذه الأشياء الخاطئة مبدئيا والمضرة سياسيا من وجهة نظر الحصول على النتيجة العملية التي كانت لجنة الحزب الشيوعي المركزية تسعى إليها بصورة صحيحة تماما. كان يكفي من أجل ذلك أن يقال (إذا أريد اتباع المجاملات البرلمانية): انه ما دامت أكثرية عمال المدن تسير في أثر المستقلين، فإننا، نحن الشيوعيين، لا نستطيع أن نمنع هؤلاء العمال من نبذ آخر أوهامهم عن الديموقراطية البرجوازية الصغيرة (أو ما معناه كذلك «الأوهام البرجوازية الرأسمالية»)، وذلك عن طريق تجربة حكومتـ«هم». وهذا ما يكفي لتبرير المساومة، التي هي ضرورية في الواقع، والتي يجب أن تتلخص في الامتناع لزمن معين عن محاولات اسقاط الحكومة بالعنف، الحكومة التي تتمتع بثقة أكثرية عمال المدن. وأمّا في التحريض الجماهيري اليومي، غير الداخل في إطار المجاملات الرسمية، البرلمانية، فيمكن طبعا أن نضيف ما يلي: دع الأنذال من شاكلة شيدمان والتافهين الضيقي الأفق من أشكال كاوتسكي وكريسبين يفضحون أنفسهم في العمل ويظهرون مبلغ خداعهم لأنفسهم وللعمال. إن وزارتهم «النظيفة» ستقوم «أنظف من الجميع» بعمل «تنظيف» اصطبلات أوجياس الاشتراكية والاشتراكية الديموقراطية وما اليها من أنواع اشتراكية الخيانة.
لقد ظهرت مرة أخرى، إبان الفتنة الكورنيلوفية الألمانية، أي إبان انقلاب السيدين كاب ولوتفيتز، الجبلة الحقيقية لزعماء «الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني المستقل» الحاليين (أولئك الزعماء الذين يقال فيهم، عن غير حق، أنهم قد فقدوا كل نفوذ لهم، والذين يقال فيهم، عن غير حق، أنهم قد فقدوا كل نفوذ لهم، والذين هم، في الواقع، أكثر خطرا على البروليتاريا من الاشتراكيين-الديموقراطيين المجربين الذين سموا أنفسهم شيوعيين، ووعدوا «بتأييد» ديكتاتورية البروليتاريا)[٢]. وهناك مقالان صغيران يعطيان صورة مصغرة بهذا الصدد، بيد أنها صورة بارزة، احدهما لكارل كاوتسكي وعنوانه «لحظات فاصلة» («Entscheidende Stunden») نشر في «Freiheit» («الحرية»، لسان حال المستقلين) في ٣٠ مارس سنة ١٩٢٠، والآخر لأرثور كريسبين وعنوانه «حول الوضع السياسي» (نشر في الجريدة نفسها في ١٤ ابريل ١٩٢٠). إن هذين السيدين عاجزين بالمرة عن التفكير والاستدلال على غرار الثوريين، انهما ديموقراطيان برجوازيان صغيران بكاءان، بحيث لو اعلنا نفسيهما نصيرين للحكم السوفييتي ولديكتاتورية البروليتاريا لكان ذلك أخطر على البروليتاريا بألف مرة، لأنهما في الواقع سيرتكبان الخيانة، ولا مناص، في كل لحظة عصيبة خطرة… بينا يعتقدان «باخلاص» أنهما يساعدان البروليتاريا! أفلم يرد الاشتراكيون-الديموقراطيون المجريون الذين عمدوا أنفسهم باسم الشيوعيين أن «يساعدوا» كذلك البروليتاريا، عندما رأوا، لفرط جبنهم وميوعتهم، أن وضع الحكم السوفييتي في المجر لا أمل فيه، فأخذوا ينوحون أمام عملاء راسماليي وجلادي دول الوفاق.
٣. توراتي وشركاه في إيطاليا
إن عددي الجريدة الإيطالية «السوفييت» المشار غليهما أعلاه، يثبتان تماماً ما قلته في كراسة عن خطأ الحزب الاشتراكي الإيطالي، إذ يتحمل بقاء هؤلاء الأعضاء في صفوفه، وحتى مثل هذه الزمرو من البرلمانيين. ويثبت ذلك أكثر، ما أورده محايد، كمراسل الجريدة الانجليزية البرجوازية الليبرالية «The Manchester Guardian» («المانشستر غارديان») في روما الذي نشر في العدد المؤرخ ١٢ مارس ١٩٢٠ حديثه مع توراتي.
كتب هذا المراسل: «… يرى السنيور توراتي أن خطر الثورة ليس بالدرجة التي تستدعي قلقاً لا داعي له في إيطاليا. والمكسيماليون انما يلعبون بنار النظريات السوفييتية لكي يحتفظوا بالجماهير متيقظة وهائجة لا أكثر. وأمّا هذه النظريات فليست إلاّ مجرد مفاهيم خيالية، ومناهج مبتسرة، لا تصلح للتطبيق العملي. وهي تصلح فقط لابقاء الطبقات الكادحة في حالة الانتظار. وأمّا الأشخاص الذين يستعملونها كطعم يخطفون به أبصار البروليتاريا فيجدون أنفسهم مضطرين لأن يخوضوا كفاحا يوميا من أجل الحصول على بعض التحسينات الاقتصادية، الطفيفة في الغالب، وذلك لارجاء تلك اللحظة التي ستفقد فيها الطبقات الكادحة أوهامها وإيمانها بأساطيرها المحبوبة, هذا هو باعث هذه السلسلة الطويلة من الاضرابات المختلفة المقاييس والمختلفة الذرائع، بما فيها الاضرابات الأخيرة لعمال البريد والسكك الحديدية، الاضرابات التي تزيد وضع البلاد الشاق سواءا على سوء. فالبلاد في هياج من جراء المصاعب الناشئة من مسألة الأدرياتيك، وهي مرهقة بدينها الخارجي وبتضخم العملة فيها، ومع ذلك فهي لم تدرك بعد أبداً ضرورة اتباع الطاعة في العمل، تلك الطاعة التي باستطاعتها وحدها أن تعيد النظام والرفاه…»
واضح كالشمس، أن النراسل الانجليزي قد أفضى بالحقيقة التي يظهر أن توراتي نفسه وحماته والمتواطئين معه وملقنيه البرجوازيين في إيطاليا يكتمونها ويزوقونها. وهذه الحقيقة هي أن أفكار السادة توراتي، وتريفيس، وموديلياني، ودوغوني وشركاهم، وكذلك اعمالهم السياسية، هي في الواقع وبالضبط، كتلك التي وصفها المراسل الإنجليزي. إنها اشتراكية الخيانة بعينها. اليكم فقط هذا الدفاع عن النظام والطاعة للعمال المأجورين في العبودية، والكادحين من أجل أرباح الرأسماليين كم هي مألوفة لنا، نحن الروس، هذه الأحاديث المنشفية وأية بلادة وابتذال برجوازي يتجليان في عدم فهم الدور الثوري للاضرابات المتسعة بصورة عفوية أجل، إن مراسل الجريدة الانجلييزية الليبرالية الإنجليزية قد قدم خدمة معكوسة للسادة توراتي وشركاه، وأكد بسطوع صحة طلب الرفيق بورديغا وأصدقائه في جريدة «السوفييت» المطالبين من الحزب الاشتراكي الإيطالي، فيما إذا أراد عمليا تأييد الأممية الثالثة، أن يطرد من صفوفه السادة توراتي وشركاه طردا مشيناً، وأن يصبح سواء باسمه أو بأفعاله حزبا شيوعيا.
٤. نتائج غير صحيحة من مقدمات صحيحة
ولكن الرفيق بورديغا وأصدقاءه «اليساريين» يخلصون من انتقادهم الصحيح للسادة توراتي وشركاه إلى نتيجة غير صحيحة، مفادها أن الاشتراك في البرلمان بوجه عام أمر مضر. إن «اليساريين» الايطاليين لا يستطيعون أن يوردوا دلائل جدية ولا شبه جدية في الدفاع عن هذا الرأي. إنهم يجهلون، لا أكثر ولا أقل، (أو يسعون لينسوا) الأمثلة العالمية للاستفادة من البرلمان البرجوازي، استفادة ثورية وشيوعية حقاً، ومفيذة في أمر التحضير للثورة البروليتارية فائدة لا جدال فيها. إنهم لا يتصورون مطلقا طريقة «جديدة» للاستفادة من البرلمان، ولذا يردّدون دون انقطاع صراخهم ضد الطريقة «القديمة» غير البلشفية للاستفادة من البرلمانية.
وذلك هو خطأهم الجذري. يجب على الشيوعية، لا في الميدان البرلماني وحده، بل وفي جميع ميادين النشاط أن تدخل شيئا ما جديدا من الناحية المبدئية (وهذا لا يتم بدون جهد مديد دائب عنيد)، شيئا يصرم الصلة جذريا بتقاليد الأممية الثانية (وفي الوقت نفسه يحافظ على جوانبها الحسنة ويطورها).
فلنأخذ على الأقل العمل الصحفي. إن الجرائد والكراسات والمناشير تؤدي عملاً ضرورياً للدعاية والتحريض والتنظيم. فما من حركة جماهيرية في أية بلاد متمدنة لحد ما تسنطيع أن تستغني عن جهاز الصحافة. وما من صخب ضد «الزعماء» ولا أية ايمان مغلظة بشأن صيانة طهارة الجماهير من نفوذ الزعماء،يمكن ان ينفي ضرورة ضرورة الاستفادة لهذا العمل، من أناس نشأوا في أوساط المثقفين البرجوازية، أو أن يخلص من المحيط البرجوازي الديموقراطي ومن جو «الملكية الخاصة»، الجو الذي يُنجز فيه هذا العمل في ظل الرأسمالية. إذ حتى بعد سنتين مضتا ونصف السنة على اسقاط البرجوازية، وبعد أخذ البروليتاريا السلطة السياسية، نشاهد نحن حولنا هذا الجو، وهذه العلاقات البرجوازية الديموقراطية، علاقات الملكية الخاصة بين الجماهير (جماهير الفلاحين والحرفيين).
البرلمانية هي شكل من أشكال العمل، والصحافة شكل آخر. إن محتوى هذين الشكلين يمكن، بل ويجب، أن يكون محتوى شيوعيا إذا كان نشطاء كلا الميدانين شيوعيين حقيقيين، وإعضاء حقيقيين في الحزب البروليتاري الجماهيري. ولكن سواء في ذلك الميدان أو هذا –وكذلك في أي مجال للعمل – لا يمكن، في ظل الرأسمالية، وعند الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، تجنب تلك الصعوبات وتلك المهام الخاصة التي يجب على البروليتاريا أن تتغلب عليها وتبت فيها، للاستفادة ممن نشأوا في صفوف البرجوازية، في سبيل الانتصار على أوهام ونفوذ المثقفين البرجوازيين، ومن أجل إضعاف مقاومة محيط البرجوازية الصغيرة (وإصلاحه التام فيه بعد).
ألفم نشاهد نحن قبل سنوات ١٩١٤-١٩١٨، وفي جميع البلدان، أمثلة وافرة للغاية، من حملات الفوضويين «اليساريين» جداً، والنقابيين وأمثالهم على البرلمانية، واستهزائهم بالاشتراكيين البرلمانيين المتخلقين بصفات الابتذال البرجوازي، وتقريعهم أياهم لوصوليتهم والخ.، وهلجرا. بينما كانوا هم أنفسهم يحتالون عن طريق الصحافة، وعن طريق العمل في النقابات لبلوغ نفس المآرب الوصولية البرجوازية؟ أوليست أمثلة جوهو وميرهايم وغيرهما، لو اقتصرنا على فرنسا، أمثلة نموذجية؟
إن الصبيانية في «نفي» الاشتراك في البرلمان هي أنهم يريدون على وجه الضبط، بهذه الطريقة «البسيطة»، و«الهيّنة»، والمزعوم أنها ثورية، أن «يحلوا» المهمة الصعبة، مهمة النضال ضد النفوذ البرجوازي الديموقراطي داخل حركة العمال. أمّا في الواقع، فإنهم يهربون هرباً من ظلمهم ويطبقون عيونهم اطباقا على المصاعب، ويتهربون منها بالكلمات فقط. إن الوصولية بأوقح أشكالها والاستغلال البرجوازي للكراسي البرلمانية والتحوير الاصلاحي الصارخ للنشاط البرلماني، والروتين البرجوازي الصغير المبتذل، كل ذلك هو دون شك السمات العادية والغالبة التي توجده (والذي يتلاشى ببطء كبير حتى بعد اسقاط البرجوازية، بسبب أن الفلاحين يبعثون البرجوازية على الدوام) يولدان، في جميع ميادين العمل والحياة اطلاقا، نفس تلك الوصولية البرجوازية والشوفينية القومية والابتذال البرجوازي الصغير وغير ذلك مما هو في الجوهر واحد، وفي الشكل لا يختلف إلاّ شيئا يسيرا.
يخيل اليكم، أيها المقاطعون الأعزاء والمناوئون للبرلمان، أنكم «ثوريون رهيبون»؛ أمّا في واقع الأمر، فقد ارتعدت فرائصكم أمام مصاعب غير ذات شأن نسبيا من مصاعب النضال ضد نفوذ البرجوازية داخل حركة العمال، في حين أن انتصاركم، وأعني اسقاط البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية، يوجد المصاعب هذه ذاتها بمقياس أكبر من ذلك وأوسع بكثير. لقد ارتعدت فرائصكم كالأطفال أمام الصعوبة الصغيرة التي تواجهكم اليوم، ولم تفهموا أنه لا بدّ لكم إذا وبعد غد أن تكملوا تثقيفكم، أن تتعلموا كيفية التغلب على هذه المصاعب ذاتها ولكن في مقاييس أوسع بما لا يحد.
في عهد الحكم السوفييتي يتسلل ربائب البرجوازية من المثقفين إلى حزبكم وحزبنا البروليتاري بمقياس أكبر. وهم يتغلغلون في السوفييتات وفي المحاكم والإدارات، إذ لا يمكن بناء الشيوعية بمواد أخرى غير المواد البشرية التي أوجدتها الرأسمالية، فلا يمكن طرد المثقفين البرجوازيين وإبادتهم، إنما ينبغي أيضا إعادة تنشئة البروليتاريا أنفسهم وذلك في نضال مديد وعلى أساس ديكتاتورية البروليتاريا. فالبروليتاريون أنفسهم لا يتركون أوهامهم البورجوازية الصغيرة فوراً ولا نمعجزة ولا بحكم من مريم العذراء، ولا بأمر م شعار، ولا بقرار أو مرسوم، وإنما بنضال جماهيري مديد عسير ضد نفوذ البرجوازية الصغيرة الجماهيري. إن تلك المهام التي يرميها الآن مناوئو البرلمان عن عواتقهم بحركة يد واحدة، وبمثل هذه العجرفة والكبرياء والنزق والصبيانية، إن تلك المهام تنبعث في العهد السوفييتي من جديد في داخل السوفييتات، وفي داخل الادارات السوفييتية وبين «الوكلاء الحقوقيين» السوفييتيين (لقد حطمنا نحن في روسيا نظام المحاماة البرجوازي، وتحطيمنا له كان عملا صائبا، إلاّ أنه ينبعث من جديد عندنا تحت يافطة «الوكلاء الحقوقيين» «السوفييتيين»). إننا نرى جميع تلك السمات السلبية، التي هي من صلب البرلمانية البرجوازية، تنبعث باستمرار بين المهندسين السوفييتيين والمعلمين السوفييتيين، وبين ذوي الامتياز من عمال المصانع السوفييتية، أي بين العمال ذويي الخبرة العالية والوضع الممتاز. وهذا الشر لا ننتصر عليه – انتصارا تدريجيا – إلاّ بنضال دائب لا يكل، نضال مديد عنيد للتنظيم البروليتاري والانظباط.
وبديهي أن يكون التغلب على العادات البرجوازية إبان سيطرة البرجوازية أمراً «صعباً» جداً في حزبنا الخاص، ونعني حزب الطبقة العاملة. وأن طرد الزعماء البرلمانيين المألوفين الذين أفسدتهم الأوهام البرجوازية لدرجة مستعصية أمر «صعب». وإخضاع ذلك العدد الضروري ضرورة مطلقة (,ليكن عدداً معينا محددا جدا) من ربائب البرجوازية للطاعة البروليتارية أمر «صعب». وايجاد كتلة شيوعية في البرلمان البرجوازي جديرة كل الجدارة بالطبقة العاملة أمر «صعب». وضمان جعل النواب الشيوعيين لا ينشغلون بالألاعيب البرلمانية البرجوازية، بل يصرفون همتهم في النشاط اللازم لزوماً مبرماً، في الدعاية والتحريض والتنظيم بين الجماهير أمر «صعب». ان كل ذلك، دون أخذ ورد، أمر «صعب»، وقد كان صعباً في روسيا، وهو أصعب، دون شك، في أوروبا الغربية وأمريكا، حيث البرجوازية أكثر رسوخاً والخ..
ولكن جميع هذه «المصاعب» ليست إلاّ الاعيب أطفال إذا قورنت بمهام من هذا النوع تماماً يجب حتماً على البروليتاريا أن تبت فيها، سواء من أجل انتصارها هي، أو في زمن الثورة البروليتارية، أو بعد أخذ البروليتاريا السلطة. فانشاء كتلة شيوعية حقا لحزب بروليتاري حقيقي، في البرلمان البرجوازي، في عهد سيطرة البرجوازية، لهو عمل صبياني سهل إزاء هذه المهام الهائلة في الواقع، المهام التي يتعين بموجبهافي عهد ديكتاتورية البروليتارياأن نعيد تنشئة الملايين من الفلاحين، وذوي الاستثمارات الصغيرة، ومئات الألوف من الموظفين، والمثقفين البرجوازيين، وأن نخضعهم جميعا للدولة البروليتارية وللقيادة البروليتارية، ونتغلب على عاداتهم وتقاليدهم البرجوازية.
فإذا كان الرفاق «اليساريون» ومناوئو البرلمان لا يتعلمون الآن كيفية التغلب حتى على مثل هذه الصعوبات الصغيرة، فإن بالإمكانت القول عن يقين، أنهم أمّا سيعجزون عن تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا، ولن يستطيعوا في نطاق واسع أن يخضعوا ويصلحوا المثقفين البرجوازيين والمؤسسات البرجوازية، وأمّا أنه سيتحتم عليهم أن يتمموا معارفهم في استعجال، وبهذا الاستعجال سيعودون بضرر جسيم على قضية البروليتاريا، وسيرتكبون أخطاء تفوق المعتاد، ويظهرون ضعفا وعجزاً يتجاوز الحد المتوسط، وهلمجراً وقس على ذلك.
ما لم تسقط البرجوازية، ثم ما لم يتلاش الاستثمار الصغير والانتاج البضاعي الصغير بصورة تامة، فإن المحيط البرجوازي وعادات الملكية الخاصة، وتقاليد البرجوازية الصغيرة، ستفسد حتى ذلك الحين عمل البروليتاريا، سواء من خارج حركة العمال أو من داخلها، وستفسده لا في مجال واحد فقط من مجالات النشاط، أي المجال البرلماني، بل أيضا، ولا مناص، في جميع وشتى حقول النشاط الاجتماعي، وفي جميع الميادين الثقافية والسياسية دون استثناء. إن من أفحش الأخطالء التي يكلف ارتكابها ثمناً باهظاً أن يحاول المرء التملص من واحدة من هذه المهام «غير الرائقة» أو الصعبة في حقل ما من حقول العمل، وان يتسيج ضدها. يجب أن ندرس ونتعلم كيف نسيطر على جميع ميادين العمل والنشاط دون أي استثناء، وكيف نتغلب على جميع ميادين العمل والنشاط دون أي استثناء، وكيف نتغلب على جميع المصاعب وجميع العادات والتقاليد والشناشن البرجوازية في كل مكان. ووضع المسألة بشكل آخر ليس إلاّ تفاهة وصبيانية.
١٢/٠٥/١٩٢٠
٥.
في الطبعة الروسية لهذا الكتاب وصفت بصورة غير صحيحة بعض الشيء سلوك الحزب الشيوعي الهولندي ككل في حقل السياسة الثورية العالمية. ولذلك فإني أغتنم هذه الفرصة لأنشر أدناه ريالة رفاقنا الهولنديين بصدد المسألة، وأصحح اصلاح «المنبريون الهولنديون» الذي استعملته في النص الروسي، واستعيض عنه بهذه الكلمات «بعض أعضاء الحزب الشيوعي الهولندي».
ن. لينين
رسالة فاينكوف:
موسكو، ٣٠ يونيو ١٩٢٠.
عزيزي الرفيق لينين،
بفضل لطفكم، أتيح لنا نحن أعضاء الوفد الهولندي إلى مؤتمر الأممية الشيوعية الثاني، أن نطلع على كتابكم «مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية» قبل نشر ترجمته إلى اللغات الأوروبية الغربية. لقد أكدتم في كتابكم هذا، عدة مرات، استهجانكم ذلك الدور الذي لعبه بعض اعضاء الحب الشيوعي الهولندي في السياسة الدولية.
ومع ذلك فإننا نرى واجبا علينا أن نحتج على وضعكم مسؤولية تصرفاتهم على الحزب الشيوعي. فهذا غير دقيق بالمرة. وأكثر من ذلك، فهو غير عادل، لأن هؤلاء الأعضاء في الحزب الشيوعي الهولندي يشتركون اشتراكا قليلا جداً أو أنهم لا يشتركون أبداً في النشاط البومي للحزب، ثم هم يحاولون، بصورة مباشرة، أن يطبقوا في الحزب الشيوعي شعارات معارضة، كان الحزب الشيوعي الهولندي ولا يزال حتى اليوم مع جميع هيئاته يشن عليها أنشط نضال.
تحيات أخوية
د ي. فاينكوب
(عن الوفد الهولندي)
كتب في أبريل ١٩٢٠
في كتاب على حدة،
في بتروغراد،
عن دار الدولة للطبع والنشر
[١]
فيما يخص مسألة الاندماج في المستقبل بين الشيوعيين «اليساريين» مناهضي البرلمانية وبين الشيوعيين بوجه عام، أود أن أذكر الملاحظات الإضافية التالية. لقد استبان لي من مطالعتي في صحف الشيوعيين «اليساريين» والشيوعيين بوجه عام في ألمانيا، أن الأولين يتميزون بأنهم يستطيعون التحريض بين الجماهير بشكل أفضل من الآخرين. ونظير هذا قد لاحظته مرارا في تاريخ الحزب البلشفي ولكن بمقاييس أصغر وفي منظمات محلية منفردة، لا في النطاق العام للدولة. ففي سنتي ١٩٠٧-١٩٠٨مثلا، كان البلاشفة «اليساريون» أحيانا وفي بعض الأماكن يحرزون نجاحا أكبر من نجاحنا في التحريض بين الجماهير. وسبب ذلك لحد ما، هو أن التقرب إلى الجماهير بتكتيك «مجرد» النفي يكون أسهل في اللحظة الثورية، أو عندما تكون ذكريات الثورة حية في الخواطر. ولكن هذا ليس بدليل بعد على صحة هذا التكتيك. وعلى كل حال، لا مجال لأدنى شك في أن الحزب الشيوعي الذي يريد، عمليا، أن يكون الطليعة والرعيل الأمامي للطبقة الثورية، أي البروليتاريا، والذي يريد، عدا ذلك، أن يتعلم قيادة الجماهير الكادحة والمستثمرة غير البروليتارية فضلاً عن قيادة الجماهير الواسعة البروليتارية، يجب عليه أن يعرف كيف قوم بأعمال الدعاية والتنظيم والتحريض بأسهل الأشكال منالاً، بشكل مفهوم للغاية، وواضح كل الوضوح ونابض بالحياة، بشكل يتقبله «الشارع» المصنعي في المدن وتتقبله القرى على حد سواء.
[٢]
ونذكر عرضا أن هذا الأمر قد شرح، بوضوح وإيجاز بالغين ودقة متناهية، وبصورة ماركسية، في جريدة الحزب الشيوعي النمساوي الرائعة، «الراية الحمراء»، في عدديها المؤرخين ٢٨ و ٣٠ مارس سنة ١٩٢٠: («Die Rote Fahne» Wien, 1920, 266—u. 267 ;LL. «Ein neuer Abschnitt der deutschschen Revolution») (-ل.ل. «المرحلة الجديدة للثورة الألمانية». الناشر).
كتب: أبريل-مايو ١٩٢٠
نشر لأول مرة: (في شكل منشور) في يونيو ١٩٢٠
التحويل الرقمي: جريدة المناضل-ة (مايو ٢٠٠٥)
|
|