الخلافات فى الحركه العماليه الاوروبية
إن الخلافات التكتيكية الرئيسية فى الحركة العمالية المعاصرة فى أوروبا وأميركا تنحصر فى النضال ضد اتجاهين قويين ينحرفان عن الماركسية التى غدت بالفعل النظرية السائدة فى الحركة. وهذان الاتجاهان هما النزعة التحريفية (الانتهازية الإصلاحية) والفوضوية (النقابية-الفوضوية، الاشتراكية-الفوضوية). إن هذين الانحرافين عن النظرية الماركسية والتكتيك الماركسى، السائدين فى الحركة العمالية يتخذان شتى الأشكال وشتى الألوان فى جميع البلدان المتمدنة، خلال تاريخ الحركة العمالية الجماهرية، أى خلال أكثر من نصف قرن.
من هذا الواقع وحده ينجم أنه لا يمكن تفسير هذين الانحرافين لا بالصدفة، ولا بأخطاء بعض الأشخاص أو الجماعات، ولا حتى بتأثير الخصائص أو تقاليد القومية، الخ… فلا بد أن تكون ثمة أسباب جوهريه تكمن فى النظام الاقتصادى، فى طابع تطور جميع البلدان الرأسمالية، وتولد هذين الانحرافين على الدوام. إن الكتيب الذى أصدره فى السنة الماركسى الهولندى أنطوان بانكوك Anton Penacook. (الخلافات التكتيكية فى الحركة العمالية)* هو محاوله مفيدة وطريفة لتحليل هذه الأسباب تحليلا عمليا. وفى سياق هذا العرض، سنطلع القارئ على استنتاجات بانكوك التى لا بد من الاعتراف بصحتها المطلقة. من أعمق الأسباب التى تولد خلافات دوريه بصدد التكتيك، واقع نمو الحركة العمالية بالذات. فإذا اعتبرنا هذه الحركة حركه عمليه يقوم بها أناس عاديون، بدلا من أن نقيسها بمقياس ما لا يعلم من مثل عليا غريبة، تبين لنا بوضوح أن اجتذاب (منتسبين) جدد أبدا، إن اشتراك فئات جديدة من الجماهير الكادحة، لا بد أن يصحبه حتما ترددات فى ميدان النظرية والتكتيك، وتكرار للأخطاء السابقة، وعوده مؤقتة إلى المفاهيم والأساليب البائدة، الخ.. إن الحركة العمالية فى كل بلد تنفق دورى، على (تعليم) المنتسبين الجدد، احتياطيات متفاوتة القدر من العزيمة والانتباه والوقت.
وبعد، إن الرأسمالية لا تتطور بنفس السرعة فى مختلف البلدان وفى شتى فروع الاقتصاد الوطنى. والماركسية إنما تستوعبها الطبقة العاملة ومفكروه، على الوجه الأسهل والأسرع والأكمل والأرسخ، فى ظروف الحد الأقصى من تطور الصناعة الكبيرة. والعلاقات الاقتصادية المتأخرة أو التى تتأخر فى تطوره، تحمل ابدا على ظهور أنصار للحركة العمالية لا يستوعبون سوى بعض جوانب الماركسية، سوى بعض أقسام من المفهوم الجديد، سوى بعض الشعارات والمطالب، ويكونون عاجزين عن التخلص بحزم من جميع تقاليد المفاهيم البرجوازية بوجه عام المفاهيم البرجوازية-الديمقراطية بوجه خاص.
وفضلا عن ذلك، ثمة ينبوع للخلافات لا ينضب، هو الطابع الديالكتيكى للتطور الاجتماعى الذى يجرى فى غمرة من التناقضات وعن طريق التناقضات. إن الرأسمالية تقدميه، لأنها تدمر أساليب الإنتاج القديمة وتنمى القوى المنتجة ولكنها فى الوقت نفسه تعرقل نمو القوى المنتجة، عند بلوغ درجه معينه من التطور. والرأسمالية تطور العمال، وتنظمهم، وتعودهم على التقييد بالنظام، وهى تضغط وتضطهد، وتقود إلى الانحطاط، والبؤس، الخ.. والرأسمالية تخلق بنفسها حفار قبره، تخلق بنفسها عناصر نظام جديد، ولكن هذه العناصر المنعزلة لا تغير شيئا فى الوضع العام، لا تمس سيطرة الرأسمال، إذا لم تحدث (قفزه). إن هذه التناقضات فى الحياة الفعلية، فى التاريخ الحى للرأسمالية والحركة العمالية، إنما الماركسية، بوصفها نظريه المادية الديالكتيكيه، هى التى تعرف كيف تفسرها وتوضحها. بيد أنه غنى عن البيان أن الجماهير تتعلم فى الحياة لا فى الكتب. ولذا ثمة أناس أو جماعات يبالغون على الدوام فى شأن هذه الميزة أو تلك من التطور الرأسمالى، هذه (الدرس) أو ذاك من هذا التطور، ويحولونهما إلى نظريه وحيدة الطرف، إلى نهج تكتيكى وحيد الطرف.
إن المفكرين البرجوازيين الليبراليين والديمقراطيين، الذين لا يفهمون الماركسية، الذين لا يفهمون الحركة العمالية المعاصرة، يقفزون أبدا من طرف قصى عاجز إلى طرف أخر. فهم تارة يفسرون الأمور بكون ثمة أناس أشقياء (يحرصون) طبقه ضد طبقه، وطورا يعزون أنفسهم قائلين إن حزب العمال هو (حزب إصلاحات مسالم) ومن النتائج المباشرة لهذا المفهوم البرجوازى وتأثيره، النقابية – الفوضوية والإصلاحية، اللتان تتمسكان بمظهر واحد من مظاهر الحركة العمالية، وتحولان هذه الحركة أو ميزاتها تنفى بعضها بعض، مع العلم أن هذه الاتجاهات أو الميزات هى الخاصة التى تميز هذه المرحلة أو تلك، هذه الظروف أو تلك من نشاط الطبقة العاملة. والحال، إن الحياة الفعلية، إن التاريخ الفعلى، يحتوى هذه الاتجاهات المختلفة، كما إن الحياة والتطور فى الطبيعة يحتويان التطور البطيء والقفزات السريعة، والانقطاعات. إن المحترفين يعتبرون تعابير فارغة جميع المحاكمات حول (القفزات) وحول التضاد المبدئى بين الحركة العمالية والمجتمع القديم بأسره. ويرون فى الإصلاحات تحقيقا جزئيا للاشتراكية. إن النقابي-الفوضوى يرفض (العمل الحقير) وبخاصة استخدام المنبر البرلمانى. غير أن هذا التكتيك الأخير يؤدى بالفعل إلى انتظار (الأيام الكبيرة) دون معرفة حشد القوى التى تخلق الأحداث الكبيرة. والفريقان كلاهما يعرقلان العمل الأكثر أهمية وإلحاحا. جمع العمل فى منظمات واسعة، قوية تعمل حسنا وتعرف كيف تعمل حسنا فى جميع الحالات، منظمات مشبعة بروح النضال الطبقى، مدركة هدفها بوضوح، مرباة بروح المفهوم الماركسى الحقيقى.
وإنى لأسمح لنفسى هنا استطرادا صغيرا وألاحظ بين هلالين، بغية اجتناب ما يحتمل من سوء الفهم، إن بانكوك يوضح تحليله بأمثلة مستقاة بوجه الحصر من تاريخ أوروبا الغربية، وبخاصة من تاريخ ألمانيا وفرنس، دون أن تخطر روسيا فى باله أبدا. وإذا كان يخال أحيانا انه يلمح إلى روسى، فذلك لسبب واحد فقط، وهو أن الاتجاهات الأساسية، التى تولّد بعض الانحرافات عن تكتيك الماركسى، تتجلى عندنا أيض، رغم الفرق الشاسع بين روسيا والغرب من حيث الثقافة، والمعيشة، والأوضاع التاريخية والاقتصادية .
وأخيرا ثمة سبب بالغ الأهمية يولّد خلافات بين أعضاء الحركة العمالية، هو التغيرات التكتيكية التى تلجا إليها الطبقات الحاكمة بوجه عام، والبرجوازية بوجه خاص. فلو أن تكتيك البرجوازية كان دائما وحيد الشكل، أو كان دائما على الأقل من النوع نفسه، لتعلمت الطبقة العاملة بسرعة أن ترد عليه بتكتيك وحيد الشكل أيضا أو من النوع نفسه. إلا أن برجوازية جميع الأقطار تصوغ حتم، فى الواقع، نهجين للحكم، أسلوبين للنضال، دفاعا عن مصالحها وذودا عن سيطرته، مع العلم أن هذين الأسلوبين يتعاقبان تارة وطورا يتعاقدان بمختلف التنسيقات. الأسلوب الأول هو أسلوب العنف، أسلوب رفض كل تناول للحركة العمالية، ودعم جميع المؤسسات القديمة البائدة، والتشدد د فى إنكار الإصلاحات. ذلك هو جوهر السياسة المحافظة التى تكف أكثر فأكثر فى أوروبا الغربية عن أن تكون سياسة طبقة الملاكين العقارين والتى تغدو أكثر فأكثر شكلا من أشكال السياسة البرجوازية العامة. أما الأسلوب الثانى، فهو أسلوب (الليبرالية) والتدابير المتخذة باتجاه توسيع الحقوق السياسية، باتجاه الإصلاحات، والتنازلات، الخ ...
والبرجوازية تنتقل من أسلوب إلى أخر، لا بدافع الصدقة ولا بدافع حساب سيء النية يقوم به بعض الأشخاص، بل بدافع التناقض الأساسى فى وضعها بالذات. إن مجتمعا رأسماليا عاديا لا يستطيع إن يتطور بنجاح دون نظام تمثيلى مستقر. دون بعض الحقوق السياسية تمنح للشعب الذى لا يمكن إلا يكون شديد المطالبة نسبيا فى المضمار (الثقافي). إن هذه المطالبة بحد أدنى معين من الثقافة ناجمة عن شروط أسلوب الإنتاج الرأسمالى نفسه، بسبب تكنيه العالى، وتعقده، ومرونته وسهولة حركته، وسرعة تطور المزاحمة فى العالم بأسره، الخ .. ولذا فإن الذبذبات فى تكتيك البرجوازية، والانتقال من نهج العنف إلى نهج التنازلات المزعومة، هى من مستلزمات تاريخ جميع البلدان الأوروبية فى نصف القرن الأخير، ناهيك عن شتى البلدان تفضل تطبيق هذا الأسلوب أو ذاك خلال مراحل معينه. مثل، فى العقدين السابع والثامن من القرن التاسع عشر كانت انجلترا البلد الكلاسيكى للسياسة البرجوازية (الليبرالية) وفى العقدين الثامن والتاسع اتبعت ألمانيا أسلوب العنف، الخ.
حين كان هذا الأسلوب سائدا فى ألمانى، ولد هذا المنهج من مناهج الحكم البرجوازى صدى وحيد الطرف، هو تطور النقابية-الفوضوية، أو كما كان يقال حينذاك، تطور الفوضوية فى الحركة العمالية (الشباب) فى مطلع سنوات العقد العاشر، يوهان موسست فى مطلع سنوات العقد التاسع. وحين جرى فى ١٨٩٠ انعطاف، كما هى الحال أبد، أشد خطرا على الحركة العمالية، لأنه ولّد صدى وحيد الطرف أيضا فى (النزعة الإصلاحية) البرجوازية، أى انتهازية فى الحركة العمالية. وقد كتب بانيكوك يقول "إن الهدف الايجابى، الفعلى، للسياسة الليبرالية التى تنتهجها البرجوازية، هو تضليل العمال وشق صفوفهم، وتحويل سياستهم إلى ذيل هزيل لسياسة النزعة الإصلاحية المزعومة، هذه النزعة الهزيلة والوهمية دائما.
فى كثير من الأحيان، تبلغ البرجوازية هدفها، لفترة من الزمن، بوساطة سياسة (ليبرالية)، هى، حسب ملاحظة بانيكوك الصحيحة، سياسة (أكثر مكرا). وأحيانا، ينخدع قسم من العمال، قسم من ممثليهم، بتنازلات ظاهرية. إن المنحرفين يعلنون أن تعاليم النضال الطبقى مذهب (بائد)، أو أنهم أخذوا ينتهجون سياسة هى عمليا سياسة التخلى عن هذا النضال. إن اعوجاجات التكتيك البرجوازى تؤدى إلى تعزيز النزعة التحريفية فى الحركة العمالية وغالبا ما تدفع الخلافات داخل هذه الحركة إلى حد الانشقاق السافر.
إن جميع الأسباب من النوع المشار إليه تثير خلافات فى الحركة العمالية، فى الأوساط البروليتارية حول التكتيك الواجب تطبيقه، ولكن ليس ثمة ولا يمكن أن يكون ثمة سور كسور الصين بين البروليتارية وفئات البرجوازية الصغيرة، بما فيها جماهير الفلاحين، القريبة منها. ولذا كان من المفهوم أنه لا بد لانتقال بعض الأشخاص والجماعات والفئات من البرجوازية الصغيرة إلى البروليتاريا أن يولّد، بدوره، ذبذبات فى تكتيك البروليتاريا. إن تجربة الحركة العمالية فى مختلف البلدان تساعد على تنوير طبيعة التكتيك الماركسى، فى قضايا النشاط العملى الملموسة، وهى تساعد أفتى البلدان فى أن تتفهم على وجه أفضل الأهمية الاجتماعية الحقيقية للانحرافات عن الماركسية، كما تساعدها فى مكافحة هذه الانحرافات بمزيد من النجاح.
*
Taktischen Differenzen in der Arbeiterbewegung - Hambburg, Erdmann Dubber, 1909
صدرة للمرة الاولى فى كانون الاول (ديسمبر) ١٩١٠
في جريدة زفيزدا (النجم) العدد ١، ١٦
النسخ الالكتروني: نرمين ناصر (مايو ٢٠٠٤)
|
|