محاولة فى تصنيف الأحزاب السياسية
رفض مؤتمر توحيد حزب العمال الاشتراكى الديمقراطى، كما نعلم، تحليل الأحزاب السياسية الروسية من وجهة نظر قاعدتها الطبقية ورفض تحديد موقف البروليتاريا إزاءها. ولم يكن التأكيد العام على مقرر أمستردام غير شكل لهذا الرفض. لكن الثورة تتطلب بإلحاح متزايد أن نطبق المنهجية والنظرية الماركسيتين فى دراسة تشكل الأحزاب وفى تلك السيرورة العميقة وبالغة الأهمية التى تتواصل فى روسيا بشكل أسرع واكثر حيوية من أى مكان آخر وذلك لأسباب مفهومة.
طبعا مازالت هذه السيرورة بعيدة عن الاكتمال وما زالت لم تعط بعد نتائج قارة. لكن هذه السيرورة لا يمكن أبدا أن تنتهى فى المجتمع الرأسمالى ولا يمكن أن تكون نتائجها« قارة» إلا عندما يتوقف تطور الثورة بما هى تدمير شامل لكافة البنية الفوقية السياسية القديمة. هذا ما يجعل متعذرا علينا تأخير تحليل الأحزاب البرجوازية لا سيما أن فترة حريات أكتوبر من جهة وفترة الدوما الأولى من جهة ثانية قد أعطتا بلا ما لا يدع مجالا للشك نتائج جدية يستحيل غض الطرف عنها. وسيتطلب النضال الثورى المفتوح فى شكل إضرابات وانتفاضات، الخ من حزبنا أن يدقق بوضوح علاقاته مع باقى الأحزاب، والحال أن ذلك غير ممكن الا بتحليل علمى أى تحليل طبقى.
لنبدأ بجرد الأحزاب السياسية الهامة إلى هذا الحد أو ذاك (بوجه الدقة أنماط * الأحزاب) سيرا من «اليمين» إلى « اليسار»، فهناك : أ) اتحاد الشعب الروسى، الملكيون، الخ، ب) حزب النظام الشرعى، ج) الاكتوبريون، د) حزب التجديد السلمى، هـ) حزب الإصلاحات الديمقراطية، و) حزب الكاديت، ز) المفكرون الاحرار، الراديكاليون، «البيزاغلافسكي»[١]، الخ. ح) الاشتراكيون الشعبويون–الترودوفيك ط) الاشتراكيون-الثوريون، ي) القصويون، ك) الاشتراكون الديمقراطيون المناشفة والبلاشفة.
ولا نعتبر الفوضويين لأنه من المخاطرة اعتبارهم حزبا سياسيا (شأنهم فى ذلك شان القصويين).
من هذه الفسيفساء تبرز بوضوح خمس أنماط أساسية من الأحزاب السياسية فى بلدنا: أ) المئات السود، ب) الاكتوبريون، ج) الكاديت، د) الترودوفيك، هـ) الاشتراكيون الديمقراطيون. ويبرهن تحليل الطبيعة الطبقية لهذه الأحزاب على صحة هذا التصنيف.
لا شك أنه يتعين اعتبار الاشتراكية-الديمقراطية نمطا على حدة. إنها خاصة بأوربا بكاملها. إنها فى روسيا الحزب العمالي الوحيد، إنها حزب البروليتاريا، سواء بتركيبه أو وجهة نظره البروليتارية المدعومة بصرامة.
ثم من الجلى أيضا أن على الترودوفيك[٢] أن يشكلوا نمطا آخر. ويُدرج فى هذا النمط «الحزب الاشتراكي-الشعبى للعمل» والاشتراكيون-الثوريون بحصر المعنى وأخيرا القصويون. وكلهم ينطلقون نظريا من وجهة نظر «مبدأ العمل». ويميلون كلهم إلى جمع وصهر البروليتاريين وصغار المنتجين فى «مجموعة واحدة للعمل». ويسعون إلى الاستناد بالخصوص على الفلاحين. وقد أبرزت دوما الدولة، حيث شكلت غالبية النواب الفلاحين مجموعة عمل، إن هذه الاتجاهات تمكنت (إلى هذا الحد أو ذاك) من خلق فعلى للمنظمة السياسية للفلاحين.
طبعا لا شك أن الأحزاب السياسية من هذا النوع متبلورة ومنظمة بشكل أقل بما لا يقاس من الحزب الاشتراكي-الديمقراطى. من الناحية الشكلية لا يوجد حزب القصويين، رغم أن انشقاقهم عن الاشتراكيين-الثوريين أمر واقع برهن عليه استقلال كتاباتهم واعمالهم الإرهابية. فى الدوما لم يشكل الاشتراكيون-الثوريون تكتلا، وكانوا ينشطون بالاختفاء خلف بعض الترودوفيك. كما أن «الحزب الاشتراكي-الشعبى للعمل» يوجد أيضا فى حالة جنين رغم أنه لا يعمل فى الصحافة بارتباط مع اشتراكيين-ثوريين أقحاح وحسب بل حتى بشكل مستقل. وفى الدوما تصرف أيضا زعماؤه تارة بارتباط بالاشتراكيين-الثوريين، لكن باستقلال تارة أخرى. كما تبرز محاضر المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي-الثوري (باريس ١٩٠٦) ان هؤلاء الاشتراكيين-الشعبويين-الترودوفيك يعملون كـ«مجموعة» على حدة على هامش حزب الاشتراكيين-الثوريين. باختصار نرى فى هذا المعسكر: (١) حزبا سريا (حزب الاشتراكيين-الثوريين) العاجز كليا عن خلق منظمة جماهيرية إلى هذا الحد أو ذاك وقارة إلى هذا الحد أو ذاك، وعاجز عن العمل ياستقلال، تحت رايته الخاصة، فى الدوما وفى الصحافة خلال حقبة الحريات. (٢) حزبا شرعيا فى طور التشكل (حزب الاشتراكيين-الشعبويين-الترودوفيك)، الذى تصرف خلال مؤتمر الاشتراكيين-الثوريين (ديسمبر ١٩٠٦) كمجموعة مغايرة لكنه كان عاجزا لحد الآن عن الشروع فى خلق منظمة جماهيرية والذى يعمل غالب الاوقات، فى الصحافة كما فى الدوما، باتفاق مع الاشتراكيين-الثوريين.
إن كون الترودوفيك لم يتمكنوا، بعد حقبتين من الحرية النسبية (حقبة «أكتوبر» وحقبة «الدوما») من تشكيل حزب سياسى أمر لايمكن بكل يقين تفسيره بمحض الصدفة. لا جدال فى أن ذلك يعود إلى كون البرجوازية الصغيرة (لاسيما بالقرى) اقل قابلية للتنظيم من البروليتاريا. ولا شك أن الخلافات الأيديولوجية للترودوفيك تعكس أيضا الوضع غير القار إلى حد بعيد للمنتج الصغير فى المجتمع الحديث: أقصى يمين الترودوفيك («الحزب الاشتراكي-الشعبوى للعمل» بقيادة بيشبخونوف) لا يتميز إلا بشكل طفيف عن الكاديت لأنه يسقط من برنامجه الجمهورية ومطلب كل الأرض للفلاحين، ولا يتميز أقصى يسار الترودوفيك (القصويون) عن الفوضويين إلا قليلا جدا.
يمثل هاذان الحدان الأقصيان، إن أمكن القول، مدى التأرجح السياسى للبرجوازية الصغيرة الكادحة. من وجهة النظر الاقتصادية يُفهم جيدا كون البرجوازية الصغيرة على وجه الدقة غير مستقرة إلى ذلك الحد. ولاشك أن الثورة الروسية ستعزز عما قريب عدم الاستقرار هذا بدل اضعافه. لكن إذ نلاحظ الأمر ونفسره يجب طبعا ألا ننسى الأهمية السياسية الكبرى لأحزابٍ كأحزاب الترودوفيك. وستعزز الحرية السياسية الحقيقية تلك الاحزاب بوجه خاص، لأنه فى غياب الحريات السياسية تكون قدرتها التنظيمية أضعف من قدرة البرجوازية ومن قدرة البروليتاريا أيضا. ومن جهة أخرى من الحتمى كليا، فى بلد برجوازى صغير وفلاحى فى جوهره كروسيا، أن تتشكل أحزاب «ترودوفيك» أو برجوازية صغيرة، متذبذبة ايديولوجيا وغير قارة سياسيا لكنها عديدة جدا.
يتوقف مصير الثورة فى بلد مثل روسيا بشكل أساسى على السلوك السياسى لصغار المنتجين. إن وجوب إقدام البرجوازية الكبيرة على الخيانة ذات يوم، أمر لا ريب فيه ( ولقد خانت بنسبة الثلثين). وكون البروليتاريا هى المحارب الأكيد أمر ما لا يحتاج فيما يخص العمال الروس إلى برهان بعد أكتوبر وديسمبر. لكن البرجوازية الصغيرة هى بالذات ذلك المعطى المتغير الذى سيحدد النتيجة.
هذا ما يوجب على الاشتراكيين-الديمقراطيين أن يتابعوا بانتباه خاص التأرجح السياسى الراهن للبرجوازية الصغيرة بين سياسة الولاء البئيسة لدى الكاديت ونضال ثورى جريء ولا هوادة فيه. ولا يتعين عليهم ملاحظة هذه السيرورة فحسب، بل التأثير عليها بقدر قواهم بروح بروليتارية.
لنتابع. لا جدال فى أن الكاديت يشكلون نمطا آخر. وليس حزب الإصلاحات الديمقراطية على يمينهم والمفكرون الأحرار والراديكاليون وتجمعات أخرى على يسارهم غير تفرعات عديمة الدلالة. يمثل الكاديت،فى المرحلة السياسية الراهنة، نمطا سياسيا مستقلا. ونرى بوضوح تميزه عن الترودوفيك. فالترودوفيك النموذجى هو الفلاح الواعى .وهو لن يرفض التفاهم مع الملكية وسيهدأ اذا نال قطعة أرضه فى اطار النظام البرجوازى لكنه فى اللحظة الحالية يبذل كل جهوده فى محاربة الملاكين العقاريين لاجل الظفر بالأرض وفى النضال ضد الدولة الإقطاعية لاجل الديمقراطية. مثال الترودوفيك هو وضع حد للاستغلال، إنما يفهم هذا الإلغاء بمعنى بورجوازى صغير وذلك ما يجعل ميله يفضى عمليا إلى نضال ليس ضد كل استغلال بل ضد استغلال الإقطاعيين ورجال المال الكبار. أما الكاديت فهو المثقف البرجوازى النموذجى وحتى المالك العقارى الليبرالى. ويشكل التعامل مع الملكية وكبح الثورة ميله الأقوى. ليس الكاديت، العاجز مطلقا عن النضال، غير سمسار أعمال. مثاله الحفاظ إلى الأبد على النظام البرجوازى، لكن فى أشكال مضبوطة بشكل ملائم حسب مقاييس الحضارة والبرلمانية. وتكمن قوته السياسية الكبرى فى اتحاد الغالبية الكبرى من المثقفين البرجوازيين، الذين لا غنى لأى مجتمع برجوازى عنهم، لكن العاجزين بالمطلق طبعا عن ممارسة تأثير جدى لتغيير نظام هذا المجتمع.
ليس الاكتوبرى النموذجى هو المثقف البرجوازى بل البرجوازى الكبير. ليس حامل إيديولوجية المجتمع البرجوازى بل سيده. وهو معنى بنحو مباشر جدا بالاستغلال الرأسمالى، ويحتقر النظريات ويهزأ من المثقفين ويرفض كل الادعاءات «الديمقراطية» الخاصة بالكاديت. إنه البرجوازى رجل الأعمال. وهو يسعى مثل الكاديت إلى المساومة مع الملكية لكن الأمر بالنسبة له لا يتعلق بنظام سياسى ولا ببرلمانية بل بتفاهم بعض الأشخاص أو القادة مع البلاط لاجل إخضاع الموظف الروسى الفظ والأ رعن، بصفته موظفا أسيويا بمعنى الكلمة، للبرجوازية القائدة. الاكتوبرى كاديتى يطبق فى الأعمال نظرياته البرجوازية. والكاديتى اكتوبرى يحلم فى ساعات فراغه، عندما لا يسلخ العمال والفلاحين، بمجتمع بورجوازى مثالى. على الاكتوبرى أن يزيد قليلا من تعلم البرلمانية والنفاق السياسى ولعب «الديمقراطية». وعلى الكاديت أن يزيد بشكل طفيف تعلم طرائق البرجوازى. عندها سينصهر الكاديتى والاكتبرى حتميا مهما كانت نتائج المساعى الحالية لأجل هذا التقارب الحميم والتى يقوم بها بوجه خاص أنصار «التجديد السلمي».
لكن لا داعى للكلام عن المستقبل. ما يهمنا هو تعلم معرفة الحاضر. بما أن السلطة توجد بالكامل بيد البلاط فمن الطبيعى تماما أن تكون الجمل الديمقراطية للكاديت ومعارضتهم «البرلمانية» لوحدها مفيدة أكثر عمليا للعناصر التى على يسارهم. كما أنه من الطبيعى أيضا أن يبتعد الاكتوبرى، المعادى بجلاء لتلك العناصر، مستاء من الكاديت ويدعم (فى انتخابات الدوما الاولى) المئات السود الحكوميين.
يشكل المئات السود النمط الأكثر يمينية من أحزابنا السياسية. إنهم لا يريدون «دستور ١٧ أكتوبر» مثل أمثال غوتشكوف: هم فى حاجة إلى الحفاظ على الاتوقراطية وإعادة ارسائها شكلا. وتكمن مصلحتهم فى الحفاظ على كامل الوسخ والجهل والخساسة المزدهرة فى ظل السلطة المطلقة للملك المحبوب. إن ما يجمعهم هو نضال ضارى للدفاع عن امتيازات البلاط للتمكن، كما فى السابق، من نهب وتعنيف ولجم البلد برمته.
وبدفاعهم مهما كلف الأمر عن الحكومة القيصرية الحالية يقتربون باستمرار من الاكتوبريين وهذا ما يصعب تحديد اين ينتهى المئات السود واين يبدأ الاكتوبرى عندما يتعلق الامر بحزب «النظام الشرعي».
هكذا أفرزت الثورة الروسية فى أقصر وقت عدة أنماط أساسية من الأحزاب السياسية تطابق الطبقات الرئيسية بالمجتمع الروسى. فثمة حزب البروليتاريا الاشتراكية الواعية، وأحزاب البرجوازية الصغيرة الراديكالية أو ذات الميول الراديكالية وفى المقام الأول البرجوازية الصغيرة القروية أى الفلاحين، والأحزاب البرجوازية الليبرالية، والأحزاب البرجوازية الرجعية. إن كانت المنظمات السياسية لا تطابق تماما التجمعات الاقتصادية والاجتماعية فمرد ذلك فقط إلى أن التجمعين الاخيرين لا تقابلهما مجموعتان سياسيتان بل ثلاث: الكاديت والاكتوبريون والمئات السود. لكن ذلك يجد تفسيره الكامل فى خصوصيات الحقبة الراهنة، وهى اللحظة التى أضحى فيها النضال الثورى بالغ العنف وحيث يغدو الدفاع بأى ثمن عن الملكية دفاعا عن الاتوقراطية. واللحظة التى تتداخل تبرز فيها بشكل طبيعى فى المجموعات الاجتماعية لهذا الاتجاه الاقتصادى أو ذاك (لأجل رأسمالية تقدمية أو لأجل رأسمالية رجعية) تجمعات سياسية (مع الحكومة الراهنة أو ضدها). لكن القرابة بين الاكتوبريين والكاديت جلية جدا ولن يجادل أحد فى وشوك تشكل حزب بورجوازى ليبرالى «عملي» كبير.
الخلاصة: تؤكد عملية تشكل الأحزاب السياسية فى روسيا باسطع نحو النظرية الماركسية.
ملاحظة: كتب هذا المقال قبل انشقاق اتحاد ١٧ اكتوبر. والآن يعِد كل من خروج شيبوف والتشكل القريب لحزب ليبرالى معتدل (اكتوبريون يساريون، انصار التجديد السلمى ويمين الكاديت) بارجاع الاحزاب السياسية الروسية بصفة نهائية إلى الأنماط الأربع الأساسية القائمة فى كل بلد رأسمالى.
[١]
البيزاغلافسكي: مجموعة نصف كاديتية ونصف منشفية من الانتليجانسيا البورجوازية الروسية، تشكلت لحظة انحدار الثورة الروسية لسنوات ١٩٠٥-١٩٠٧. اسمها يحيل على جريدتها الأسبوعية بيز زاغلافيا (دون يافطة) الصادرة فى بطرسبورغ فى ماى ١٩٠٦ بادارة بروكوبوفيتش. ومع اعلانهم عدم الانتماء إلى أى حزب كان البيزاغلافسكى عمليا دعاويين لليبرالية البرجوازية وللانتهازية ومؤيدين لنزعة المراجعة فى الاشتراكية الديمقراطية الروسية والعالمية.
[٢]
الترودوفيك: مجموعة ديمقراطيين بورجوازيين صغار بمجالس دوما الدولة الروسية، مكونة من فلاحين ومثقفين من الاتجاه الشعبوى. تشكلت مجموعة الترودوفيك فى ابريل ١٩٠٦ من نواب الفلاحين فى الدوما الاولى.
[٣]
ديسك: «الاتحاد الديمقراطى للدستوريين» منظمة مضادة للثورة ظهرت فى خريف ١٩٠٥ وتضم ممثلى من الفئات العليا من النبلاء وفئات محافظة من البرجوازية الصناعية وكبار الموظفين. فى أواخر ١٩٠٥ انضمت الديسك إلى حزب الاكتوبريين.
صدرة للمرة الاولى فى ٣٠ سيتمبر ١٩٠٦
في: جريدة بروليتارى عدد ٥
مصدر النسخة المترجمة: الاعمال الكاملة (بالفرنسية) دار التقدم – موسكو – طبعة ١٩٦٦، الجزء ١١، صفحة ٢٢٨
ترجمة ونسخ: جريدة المناضل-ة (فبراير ٢٠٠٥)
|
|